للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وصنف، ودرس وأفتى، وفاق الأقران، وصار عجبًا في سرعة الاستحضار وقوّة الجنان، والتّوسع في المنقول والمعقول والاطلاع على مذاهب السلف والخلف، انتهى.

وأقول أنا: لا أعلم بعد ابن حزم مثله، وما أظن سمح الزمان ما بين عصري الرجلين بمن يشابههما أو يقاربهما. قال الذَّهَبيّ ما ملخصه: كَانَ يُقْضَى منه العجب إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف واستدل ورجّح، وكان يحق له الاجتهاد لاجتماع شروطه، وما رأيت أسرع انتزاعًا للآيات ــ الدالة على المسألة الَّتى يوردها ــ منه، ولا أشد استحضارًا للمتون وعزوها منه. كانت السنة نصب عينيه، وعلى طرف لسانه، بعبارة رشيقة، وكان آية من آيات الله في التفسير والتوسع فيه، قال: ولعل فتاويه في الفنون تبلغ ثلاث مائة مجلد بل أكثر، وكان قوالًا بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم.

وكان أبيض، أسود الرأس واللحية، قليل الشيب، شعره إلى شحمة أذنيه، كأن عينيه لسانان ناطقان، ربعة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، جهوري الصوت فصيحًا، سريع القراءة تعتريه حدّة؛ لكن يقهرها بالحلم. قال: ولم أرَ مثله في ابتهاله واستعانته بالله وكثره توجهه إليه، وأنا لا أعتقد فيه عصمة، بل أنا مخالف له في مسائل أصلية وفرعية، فإنه كَانَ بشرًا من البشر تعتريه حدة في البحث؛ وغضب وصدمة للخصوم، تزرع له عداوة في النفوس، ولولا ذلك لكان كلمة إجماع، فإنَّ كبارهم خاضعون لعلمه، معترفون بأنه بحر لا ساحل له، وكنز ليس له نظير، ولكن ينقمون عليه أخلاقًا وأفعالًا، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلَّا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

قال الذهبي: ولا كَانَ متلاعبًا بالدين ولا يتفرد بمسائل بالتشهِّي، ولا

<<  <   >  >>