البديع، وراح يثبت أن الجمال فيهما لا يرجع إلى جمال الألفاظ من حيث هي، وإنما يرجع إلى ترتيب المعاني في الذهن ترتيبا يؤثر في النفس، ويضرب لذلك مثلا من أمثلة الجناس وهو قول أبي الفتح البستي:
ناظراه فيما جنى ناظراه ... أو دعاني أمت بما أو دعاني
ويعلق عليه بقوله:«قد أعاد- الشاعر- عليك اللفظ، كأنه يخدعك عن الفائدة وقد أعطاها، ويوهمك كأنه لم يزدك، وقد أحسن الزيادة ووفّاها، فبهذه السريرة صار التجنيس، وخصوصا المستوفى منه المتفق في الصورة، من حلى الشعر، ومذكورا في أقسام البديع»(١).
فجمال الجناس عنده في مثل بيت أبي فتح البستي يرجع إلى المفاجأة، وأن الكلمة ترى كأنها لا تعطيك شيئا جديدا وهي في الحقيقة تعطي كثيرا، وبذلك يؤثر الجناس التام بما فيه من خداع وخفاء لا يلبث أن ينكشف، ومن ثم عد من حلى الشعر، وذكر في أقسام البديع. وكل هذا يرجع إلى المعنى النفسي لا إلى اللفظ، ويضرب مثالا للجناس الناقص قول أبي تمام:
يمدون من أيد عواص عواصم ... تصول بأسياف قواض قواضب
ويعقب عبد القاهر بأن تأثير الجناس ينبعث من المعنى النفسي أيضا، فإن السامع يتوهم قبل أن يرد عليه الحرف الأخير في كلمتي «عواصم، وقواضب» أن الكلمتين السابقتين لهما ستعودان ثانية، ومن هنا يأتي التأثير، يقول: «تعود إليك الكلمة مؤكدة حتى إذا تمكن في نفسك تمامها، ووعى سمعك آخرها، انصرفت عن ظنك الأول، وزلت عن الذي سبق من التخيل، وفي ذلك ما ذكرت لك من طلوع الفائدة بعد أن