للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومن بعد قدامة جاء أبو هلال العسكري فعرّف المبالغة بقوله:

«المبالغة أن تبلغ بالمعنى أقصى غاياته، وأبعد نهاياته، ولا تقتصر في العبارة عنه على أدنى منازله وأقرب مراتبه، ومثاله من القرآن قول الله تعالى:

يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى. ولو قال: تذهل كل امرأة عن ولدها لكان بيانا حسنا وبلاغة كاملة، وإنما خصّ المرضعة للمبالغة، لأن المرضعة أشفق على ولدها لمعرفتها بحاجته إليها، وأشغف به لقربه منها ولزومها له، لا يفارقها ليلا ولا نهارا، وعلى حسب القرب تكون المحبة والألف ...

وقوله تعالى: كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً، لو قال يحسبه الرائي لكان جيدا، ولكن لما أراد المبالغة ذكر الظمآن، لأن حاجته إلى الماء أشد، وهو على الماء أحرص (١).

وبعد أن أورد أبو هلال بعض أمثلة من الشعر للمبالغة، تحدث عن نوع آخر منها فقال: «ومن المبالغة نوع آخر، وهو أن يذكر المتكلم حالا لوقف عليها أجزأته في غرضه منها، فيجاوز ذلك حتى يزيد في المعنى زيادة تؤكده، ويلحق به لاحقة تؤيده، كقول عمير التغلبي:

ونكرم جارنا ما دام فينا ... ونتبعه الكرامة حيث مالا

فإكرامهم الجار ما دام فيهم مكرمة، واتباعهم إياه الكرامة حيث مال من المبالغة» (٢).

وكلام أبي هلال هذا عن النوع الآخر من المبالغة هو في الواقع ترديد لرأي قدامة السابق في المبالغة واستشهاد ببعض أمثلته.

...


(١) كتاب الصناعتين ص ٣٦٥.
(٢) كتاب الصناعتين ص ٣٦٦.

<<  <   >  >>