للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وقيل إن موسى قد جاء متخفياً إلى الحجرة التي يلقي فيها عقيبا دروسه، حيث جلس في الصف الأخير ودهش من كثرة القوانين التي استنبطها المعلم الكبير من الشريعة الموسوية، والتي لم يحلم بها كاتبها قط. ولقد ظل التلمود أربعة عشر قرنا من الزمان أساس التربية اليهودية، وجوهرها، وكان الشاب العبراني ينكب على دراسته سبع ساعات يوميا لمدة سبع سنوات يتلوه وبثبته في ذاكرته بلسانه وعينه، وكان هو الذي يكون عقولهم ويشكل أخلاقهم بما تفرضه دراساته من نظام دقيق، وبما يستقر في عقولهم من معرفة، شأنه في هذا شأن كتابات كنفوشيوس التي كان يستظهرها الصينيون كما يستظهر اليهود التلمود ? ولم تكن طريقة دراسته مقصورة على تلاوته وتكراره، بل كانت تشمل فوق ذلك مناقشة بين المدرس والتلميذ، وبين التلميذ والتلميذ، وتطبيق القوانين القديمة على ما يستجد من الظروف، وقد أفادت هذه الطريقة حدة في الذهن وتقوية للذاكرة، وتثبيتا للعلومات ميزت اليهودي من غيره في كثير من الميادين التي تتطلب الوضوح، وتركيز الذهن، والمثابرة والدقة، وإن كانت في الوقت نفسه قد عملت على تضييق أفق العقل اليهودي والحد من حريته.

ولقد روض التلمود طبيعة اليهودي الثائرة المهتاجة وكبح جماح نزعته الفردية، وبث فيه روح العفة والوفاء لأسرته وعشيرته. ولربما كان «نير الشريعة» عبئا ثقيلا على ذوي العقول السامية الكبيرة، ولكنه كان السبب في نجاة اليهود بوجه عام.

ولقد كان التلمود على حد قول هيني Heine وطنا متنقلا لليهود يحملونه معهم أينما ساروا. فحيثما وجد اليهود، حتى وهم جالية واجفة في أرض الغربة، كان في وسعهم أن يضعوا أنفسهم مرة أخرى في عالمهم "الجيتو" وأن يعيشوا مع أنبيائهم وأحبارهم، وذلك بأن يرووا عقولهم وقلوبهم من فيض هذه الشريعة، فلا غرابة والحالة هذه إذا عشقوا التلمود وجعلوه

<<  <   >  >>