للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أخذه من هذه الخطة فثبطه وأقعده وضربه بالكسل والتواني والفتور، وفتح له باب التأويلات والرجاء وغير ذلك، حتى ربما ترك العبد المأمور جملة.

وإن وجد عنده حذراص وجداً وتشميراً ونهضة وأيس أن يأخذه من هذا الباب أمره بالاجتهاد الزائد وسول له أن هذا لا يكفيك وهمتك فوق هذا، وينبغي لك أن تزيد على العاملين، وأن لا ترقد إذا رقدوا، ولا تفطر إذا أفطروا، وأن لا تفتر إذا فتروا، وإذا غسل أحدهم يديه ووجهه ثلاث مرات فاغسل أنت سبعاً، وإذا توضأ للصلاة فاغتسل أنت لها، ونحو ذلك من الإفراط والتعدي، فيحمله على الغلو والمجاوزة وتعدي الصراط المستقيم، كما يحمل الأول على التقصير دونه وأن لا يقربه، ومقصود من الرجلين إخراجهما عن الصراط المسقيم: هذا بأن لا يقربه ولا يدلو منه، وهذا بأن يجاوزه ويتعداه.

وقد فتن بهذا أكثر الخلق، ولا ينجي من ذلك إلا علم راسخ وإيمان وقوة على محاربته ولزوم الوسط.

والله المستعان.

ومن علامات تعظيم الأمر والنهي أن لا يحمل الأمر على علة تضعف الانقياد والتسليم لأمر الله عز وجل، بل يسلم لأمر الله تعالى وحكمه ممتثلاً ما أمر به سواء ظهرت له حكمته أو لم تظهر، فإن ظهرت له حكمة الشرع في أمره ونهيه حمله ذلك على مزيد الانقياد والتسليم، ولا يحمله ذلك على الانسلاخ منه وتركه كما حمل ذلك كثيراً من زنادقة الفقراء والمنتسبين إلى التصوف، فإن الله عز وجل شرع الصلوات الخمس إقامة لذكره واستعمالاً للقلب والجوارح واللسان في العبودية، وإعطاء كل منها قسطه من العبودية التي هي المقصود بخلق العبد، فوضعت الصلاة على أكمل مراتب العبودية.

فإن الله سبحانه وتعالى خلق هذا الآدمي واختاره من بين سائر البرية، وجعل قلبه محل كنوزه من الإيمان والتوحيد والاخلاص والمحبة والحياء والتعظيم والمراقبة، وجعل ثوابه إذا قدم عليه أكمل الثواب وأفضله، وهو النظر إلى وجهه والفوز برضوانه ومجاورته في جنته، وكان مع ذلك قد ابتلاه بالشهوة والغضب والغفلة، وابتلاه بعدوه إبليس لا يفتر عنه، فهو يدخل عليه من الأبواب التي هي من نفسه وطبعه فتميل نفسه معه، لأنه يدخل عليها بما تحب، فينفق هو ونفسه وهواه على العبد: ثلاثة مسلطون آمرون، فيبعثون الجوارح في قضاء وطرهم، والجوارح آلة منقادة فلا يمكنها إلا الانبعاث، فهذا شأن هذه الثلاثة وشأن الجوارح، فلا تزال الجوارح في طاعتهم كيف أمروا وأين يمموا.

هذا مقتضى حال العبد، فاقتضت رحمة ربه العزيز الرحيم به أن أعانه بجند آخر وأمده بمدد آخر يقاوم به هذا الجند الذي يريد هلاكه، فأرسل إليه رسوله وأنزل عليه كتابه وأيده بملك كريم يقابل عدوه الشيطان، فإذا أمره الشيطان بأمر أمره الملك بأمر ربه وبين له ما في طاعة العدو من الهلاك، فهذا يلم به

<<  <   >  >>