وقد حاول بعض أجلاء الحنفية الانتصار لمذهبه فقال: إنّ في الآية قرينة تدل على أنّ الاستثناء راجع إلى الجملة الأخيرة وحدها. وبيان ذلك أن قوله تعالى:
وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ جملة مستأنفة بصيغة الإخبار، منقطعة عما قبلها، جيء بها لدفع ما عساه يخطر بالبال من أن القذف لا يصلح أن يكون سببا لهذه العقوبة، لأنّه خبر يحتمل الصدق، وربما يكون حسبة، فكان ذلك الاحتمال شبهة فيه، والشبهة تدرأ الحد، فكان قوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ دفعا لذلك الوهم، ومعناه أنّهم- مع قيام هذا الاحتمال- قد فسقوا بهتك عرض المؤمن بلا فائدة، حيث عجزوا عن الإثبات، فمن أجل ذلك استحقوا هذه العقوبة، وإذا كانت الجملة الأخيرة مستأنفة توجّه الاستثناء إليها وحدها.
وأنت خبير بأنّ مآل هذا التأويل أنّ العلة في هذه العقوبة فسقهم، وإذا كان الفسق الذي هو علة في ردّ الشهادة قد أثرت فيه التوبة فرفعته، ومحت أثره، فإنّه يلزم من ذلك أن يرتفع ردّ الشهادة الذي هو معلولة، وينمحي أثره، لضرورة زوال الحكم بزوال علته.
وكذلك حاول بعض أجلّاء الشافعية الانتصار لمذهبه، فجعل جملة تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً مستأنفة منقطعة عن الجملة التي قبلها، لأنّها ليس من تتمة الحدّ لما علمت آنفا، ويكون قوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ اعتراضا جاريا مجرى التعليل لعدم قبول الشهادة، غير منقطع عما قبله، ولهذا جاز توسطه بين المستثنى والمستثنى منه، ولا تعلّق للاستثناء به.
ولكنك تعلم أنّ القول باستئناف جملة وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ إلخ بعيد كل البعد.
ولعلّ الأولى في الاستثناء ما ذهب إليه الزمخشري «١» حيث قال: الذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن تكون الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء الشرط، والمعنى: ومن قذف فاجمعوا لهم بين الأجزية الثلاثة إلا الذين تابوا منهم، فيعودون غير مجلودين، ولا مردودي الشهادة، ولا مفسقين اهـ. أي لكن هذا الظاهر لم يعمل به في خصوص الجلد للإجماع على أنه لا يسقط بالتوبة لما فيه من حق العبد، فبقي الاستثناء في ظاهره عائدا إلى ردّ الشهادة والتفسيق.
هذا وقد سبق أبا حنيفة إلى القول بعدم قبول شهادة المحدود في القذف إذا تاب كثير من علماء التابعين منهم الحسن، وابن سيرين، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير.
وإلى ما ذهب إليه الشافعي من قبول شهادته إذا تاب ذهب أكثر التابعين وجميع فقهاء الأمصار غير الحنفية. وفي «صحيح البخاري» أنّ عمر رضي الله عنه جلد أبا
(١) انظر الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، للإمام الزمخشري (٢/ ٢١٤) .