للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

التوبة عندهم عملا قلبيا بين العبد وربه، ليس من الضروري اطلاعنا عليه، لأنّه ليس هناك حكم عملي يترتب على هذه التوبة، ومنشأ الخلاف في ذلك خلافهم في الاستثناء في الآية وإلام يرجع.

ومسألة رجوع الاستثناء بعد الجمل المتعاطفة بالواو مسألة أصولية ذكر الأصوليون الخلاف فيها بين العلماء.

والمشهور عند الأصوليين أنّ أصحاب الشافعي يقولون برجوعه إلى جميع الجمل، وأنّ أصحاب أبي حنيفة يقولون برجوعه إلى الجملة الأخيرة، وجماعة من المعتزلة يقولون بالتفصيل، وآخرون يقولون بالاشتراك، وآخرون يقولون بالوقف، وليس هذا محل ذكر الحجج للمختلفين.

والذي ينبغي ذكره هنا أنّ الخلاف بين الشافعية والحنفية إنما هو في الكلام إذا خلا عن دليل يدل على أحد الرأيين، أما إذا كان في الكلام دليل على أحد الرأيين فإنّه يجب المصير إليه بلا خلاف. فقوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [النساء: ٩٢] قد اشتمل على قرينة تعيّن أنّ الاستثناء راجع إلى الجملة الأخيرة وحدها. وتلك القرينة هي امتناع عود الاستثناء إلى تحرير الرقبة، لأنّه حقّ الله تعالى، وتصدق الولي لا يكون مسقطا لحق الله تعالى.

وكذلك قوله تعالى في المحاربين: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا [المائدة: ٣٣] إلى قوله سبحانه وتعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [المائدة: ٣٤] فيه دليل على رجوع الاستثناء إلى الجمل كلها، فإنّ التقييد بقوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ يمنع عود الاستثناء الأخيرة وحدها، أعني قوله سبحانه: وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ [البقرة: ١١٤] إذ لو عاد إليها وحدها لم يبق لهذا القيد فائدة، إذ من المعلوم أنّ التوبة من الذنب تسقط العذاب الأخروي سواء أكانت قبل القدرة عليهم أم بعدها، فلم يكن للتقييد بقوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فائدة إلا سقوط الحدّ.

ونعود إلى الآية التي معنا قول الله تعالى: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فيه ثلاث جمل متعاطفة بالواو، ومعقبة بالاستثناء، ولا خلاف بين الفريقين أنّ الاستثناء غير راجع إلى الجملة الأولى، أما على رأي الحنفية فظاهر، وأما على رأي الشافعية فلأنّ المحافظة على حقّ العبد قرينة على عدم رجوع الاستثناء إلى الجلد، فإنّ حق العبد لا يسقط بتوبة الجاني، فلم يبق إلا الجملتان الأخيرتان: رد الشهادة، والفسق، وإذ لا قرينة تعين أحد الأمرين فقد وقع الخلاف، ووجب التحاكم إلى الحجة والدليل، وأنت إذا رجعت إلى أدلة الفريقين- وهي كثيرة في كتب الأصول- فإنّك لا تجد فيها- على كثرتها- دليلا سلم من نقد.

<<  <   >  >>