للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد عرّفوا الحد بأنه فعل يلزم الإمام إقامته، وليس الردّ فعلا يلزم الإمام إقامته، لأنه عمل سلبي.

ويترتب على هذا الخلاف أنّ من قال بأنّ ردّ الشهادة من تمام الحد يلزمه القول بأنّ الحاكم لا يرد شهادة القاذف إلا بطلب المقذوف، فما لم يطلب المقذوف رد شهادة قاذفه لا ينبغي للحاكم أن يردها، إذ كانت من الحد، والحد لا يستوفيه الحاكم إلا بطلب المقذوف، فهل مذهب الحنفية كذلك؟ ومن قال بأن رد الشهادة ليس من الحد لا يرى رد الشهادة موقوفا على طلب المقذوف.

وقوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ معناه على ما قال بعضهم الإخبار بأنّهم عند الله وفي حكمه فاسقون خارجون عن طاعته، سواء أكانوا كاذبين في قذفهم- وذلك ظاهر- أم كانوا صادقين فيه. فإنّهم هتكوا عرض المؤمن، وأوقعوا السامع في الشك والريبة من غير مصلحة دينية. فكانوا فسقة لذلك. ويؤخذ من ذلك أنّ القذف مع العجز عن البينة معصية عظيمة، سواء أكان القاذف كاذبا أم صادقا.

واختار الزمخشري «١» أنّ الجملة إنشائية في المعنى وإن كانت خبرية في اللفظ، فمعنى وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فسّقوهم. ولعل مراده اعتبروهم فسقة، واحكموا بفسقهم، وعاملوهم معاملة الفساق لأنّ الله أخبر بأنهم فاسقون. والأمر قريب.

إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) قال الشافعي: توبة القاذف إكذابه نفسه، وفسّره الإصطخري من أصحاب الشافعي بأن يقول كذبت فيما قلت فلا أعود إلى مثله، وقال أبو إسحاق المروزي «٢» من أصحاب الشافعي: لا يقول كذبت، لأنه ربما يكون صادقا، فيكون قوله كذبت كذبا، والكذب معصية، والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى، بل يقول: القذف باطل، وندمت على ما قلت، ورجعت عنه ولا أعود إليه.

وقال بعض العلماء: توبة القاذف كتوبة غيره، أمر بينه وبين ربه، ومرجعها إلى الندم على ما قال، والعزم على ألا يعود.

والسر في أنّ الشافعي أدخل في معنى التوبة التلفظ باللسان، مع أن التوبة من عمل القلب، أنه يرتب عليها حكما شرعيا، وهو قبول شهادة المحدود إذا تاب، فلا بدّ أن يعلم الحاكم توبته حتى يقبل شهادته.

والحنفية لا يقبلون شهادة المحدود في قذف وإن تاب وأصلح، لذلك كانت


(١) في تفسيره الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، (٣/ ٢١٤) .
(٢) إبراهيم بن أحمد المروزي، فقيه انتهت إليه رياسة الشافعية بالعراق ولد بمرو، وأقام ببغداد وتوفي بمصر، انظر الأعلام للزركلي (١/ ٢٨) .

<<  <   >  >>