للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في قذف» «١»

صريح في شهادة القاذف لا ترد إلا بعد حده.

والخطاب في قوله تعالى: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً لأولياء الأمر من الحكام، لأنّه على نسق الخطاب في قوله تعالى: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً والمراد بالشهادة الإخبار بحق للغير على الغير أمام الحاكم، ولفظ (شهادة) نكرة واقعة في سياق النهي، فيكون عاما، وظاهر العموم فيه يقتضي أنّ شهادة القاذف مردودة سواء أكانت واقعة منه قبل القذف أم بعد القذف، وكذلك شهادة من قذف وهو كافر، ثم أسلم. ومن قذف وهو عبد، ثم أعتق: كل هؤلاء لا تقبل شهادتهم بمقتضى العموم في اللفظ. إلا أنّ الحنفية استثنوا الكافر إذا حدّ في القذف ثم أسلم، فإنّ شهادته بعد إسلامه تكون مقبولة.

نظروا في ذلك إلى أن الكافر الذي أسلم قد استفاد بالإسلام عدالة لم تكن موجودة من قبل، فلم تدخل تحت الرد، والذي دخل تحت الرد إنما هو شهادته التي كان أهلا لها عند القذف، وهي شهادته على أهل دينه.

واختلف العلماء في ردّ شهادة القاذف: أهو من تمام الحد أم ذلك عقوبة زائدة على الحد؟

فذهب الحنفية «٢» إلى أن ردّ شهادته من تمام حده، ويشهد لهم ظاهر الآية، فقد رتّبت على القذف بشرطه عقوبتين، وأوجبت على الإمام استيفاءهما من القاذف، فكأنّ الظاهر أن مجموعهما حد القذف، ألا ترى أن الشافعية قد فهموا من

قوله صلّى الله عليه وسلّم: «البكر بالبكر جلد مئة وتغريب سنة»

أنّ مجموع الجلد والتغريب حد الزاني البكر. وقال مالك والشافعي: الحد هو جلد ثمانين فقط، وأما رد الشهادة فهو عقوبة زائدة على الحد، وحجتهم في ذلك أنّ المعروف في الحدود أنها عقوبات بدنية، ورد الشهادة عقوبة معنوية، والحدود التي شرعت لحفظ الأرواح والدين والعرض والعقل والمال كلها عقوبات بدنية محسوسة، وحد القذف شرع لصيانة العرض، فكان إلحاقه بالأعم الأغلب أولى.

وأيضا

فقوله صلّى الله عليه وسلّم لهلال بن أمية: «البينة أو حدّ في ظهرك»

يدلّ على أنّ الجلد هو تمام الحد، إذ لو كان رد الشهادة من تمام الحد لما صحّ بأن يقول: «أو حد في ظهرك» لأن رد الشهادة لا يكون في ظهره، بل ولا في سائر جسمه، واتفاق الصحابة على أنّ حد السكران ثمانون جلدة، وعلى أنّه مثل حد المفتري يدل على أن حدّ المفتري هو الجلد فقط، إذ لو كان ردّ الشهادة من الحد في القذف لكان من الحد في السكر، ولوجب رد شهادة من سكر، ولم يقل بذلك أحد.


(١) انظر أحكام القرآن للإمام أبي بكر الجصاص (٣/ ٢٨٠) .
(٢) انظر الهداية شرح بداية المبتدي (١/ ٤٠٥) .

<<  <   >  >>