للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الحقوق يتولى استيفاءه مولاه، فيصير حق العبد تابعا لحق الله تعالى، فإذا غلّبنا حق الله تعالى كان حقّ العبد مستوفى لا مهدرا، وليس العكس كذلك. فما لا تعارض فيه من الصور بين حقّ الله وحق العبد فأمره ظاهر، وكذلك ما اتفق فيه الفريقان على تغليب أحد الحقين.

فمثال ما لا تعارض فيه أن يقذف الحرّ، ويعجز عن البينة، ويطلب المقذوف إقامة الحد عليه، فيستوفيه الإمام.

ومن أمثلة ما اتفقا فيه على تغليب حق الله تعالى حدّ العبد إذا قذف، فلولا تغليب حق الله فيه ما تنصف، ومما اتفقا فيه على تغليب حق العبد أنه إذا لم يطلب المقذوف إقامة الحد فليس للإمام أن يستوفيه.

أما ما تعارض فيه الحقان واختلف الشافعية والحنفية في حكمه فمن أمثلته أنه إذا مات المقذوف قبل استيفاء الحد، فالحنفية يقولون بسقوطه تغليبا لحق الله تعالى، ولأنّه ليس مالا، ولا بمنزلة المال، بل هو حق محض كخيار الشرط وحق الشفعة.

وقال الشافعية: لا يسقط الحد بموت المقذوف، بل يقوم ورثته مقامه في المطالبة به، ويرثونه عنه تغليبا لحق العبد.

ومنها: أنّه إذا قذف جماعة بكلمة واحدة أو بكلمات متعددة فالحنفية يقولون بتداخل الحد، وعليه للجميع حدّ واحد تغليبا لحق الله تعالى، كمن زنى مرارا أو سرق أو شرب الخمر كذلك، وقال الشافعية: لا يتداخل الحد، فعليه لكل منهم حد تغليبا لحق العباد.

ومنها: إذا عفا المقذوف عن الحد، فإنه يصحّ العفو عند الشافعية، ويسقط الحد تغليبا لحق العبد. وقال الحنفية: لا يسقط الحد بعفو المقذوف بعد طلبه إقامته.

فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ هذه ثلاث عقوبات ترتبت على القذف بشرطه، وليس في الآية ما يدلّ على أن بعض هذه العقوبات مرتب على بعض، لأنّ العطف فيها بالواو. بل غاية ما أفادته الآية أنّ المجموع مرتب على القذف بشرط، فكأنه قيل: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فاجمعوا لهم هذه العقوبات الثلاث: جلدهم ثمانين جلدة، ورد شهادتهم، وتفسيقهم.

فظاهر الآية أنه متى قذف وعجز عن البينة استحق العقوبات الثلاث، ولا يتوقف رد شهادته على جلده. وبهذا الظاهر قال الشافعي والليث. وقال أبو حنيفة ومالك: لا ترد شهادته إلا بعد جلده، فما لم يجلد يكون مقبول الشهادة، وحجتهما في ذلك أنّ الواو، وإن لم تقتض الترتيب، لكنّ الظاهر من الترتيب في الذكر أنه على وفق الترتيب في الحكم، وأنّ الأصل قبول شهادته ما لم يطرأ مانع، وأنّ

قوله صلّى الله عليه وسلّم: «المسلمون

<<  <   >  >>