للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

للقرآن الكريم- ولا شك أنّ القول بهذا فيه شر كبير- لهذا أنكر أبو حيان هذه الرواية عن ابن عباس وقال: إنّه رضي الله عنه يجل مقامه أن يذهب هذا المذهب الفاسد، ومن روى عنه ذلك فهو طاعن في الإسلام، ملحد في الدين «١» .

لكن غير أبي حيان ممن لا يرى رأيه في هذه الرواية يجيب عنها بغير ما أجاب، فابن الأنباري لم ينكرها، بل قال: إنها ضعيفة ومعارضة بروايات أخرى عن ابن عباس، منها ما تقدّم لك أنه كان يفسر الاستئناس بالاستئذان، وهذا يدلّ على أنّه ما كان ينكر قراءة حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا.

وبعض العلماء لم يجادل في صحة الرواية التي يقول فيها ابن عباس بخطأ الكاتب نظرا إلى أنها رويت من عدة طرق في بعضها قوة وجودة لهذا اضطر أن يؤول قوله: «أخطأ الكاتب» بأنه ينبغي أن يكون مراد به أنّ الكاتب الذي عهد إليه أن يكتب القرآن بحرف واحد يجتمع عليه الناس أخطأ في اختيار هذا الحرف حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا دون الحرف الثاني تستأذنوا وكان ينبغي أن يختار الثاني، لأنّه أبين وأوضح دلالة على المعنى، ولأنّ معناه محدود، إذ ليس في اللفظ تجوّز ولا اشتراك.

وهذا الجواب الأخير هو مختار المحققين من العلماء وأئمة التفسير.

ويصح أن يكون الاستئناس مأخوذا من الأنس بضم الهمزة، وهو سكون النفس واطمئنان القلب وزوال الوحشة، فإنّ القادم على بيت غيره مستوحش لا يدري أيؤذن له بالدخول أم لا، فعليه أن يستأنس أولا، أي يلتمس ما يؤنس ويزيل وحشته، وذلك الالتماس إنما يكون بالاستئذان.

وقيل: إنّ المراد بالاستئناس إعلام الطارق أهل البيت إعلاما تاما أنه قادم عليهم، ويدل له ما

روي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال: قلنا يا رسول الله ما الاستئناس؟ فقال:

«يتكلم الرجل بالتسبيحة والتكبيرة والتحميدة يتنحنح يؤذن أهل البيت» «٢» .

وقيل: إنّ المراد بالاستئناس فعل ما يؤنس أهل البيت، ويدفع عنهم الوحشة التي كانت تلمّ بهم لو لم يفعل. وذلك يكون بالتنحنح وما يشبهه، فهذه معان أربعة للاستئناس:

الأول: أن القادم يطلب العلم برأي أصحاب البيت في دخوله.

والثاني: أنه يطلب منهم ما يؤنسه ويزيل وحشته.

والثالث: أنه يعلمهم إعلاما مؤكدا بقدومه.

والرابع: أنه يؤنسهم بعمل ما، كأن يسبح أو يكبر، ومنه ما تعارفه الناس اليوم من دقّ الباب دقا خفيفا دلالة على طلب الإذن.


(١) انظر البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي (٦/ ٤٤٥) .
(٢) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (٥/ ٣٨) .

<<  <   >  >>