للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أحدهما بثه والثاني لم يبثثه، أما أنْ يكون رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد اخْتَصَّ أبا هريرة بشيء من الأحكام، فغير معقول، لأنه ينافي تبليغ الرسالة، وأمر الله - عَزَّ وَجَلَّ - في قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (١).

وهل ما اختصه به من الآداب؟ فبعيد جداً لأنَّ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إنما بعث ليتمم مكارم الأخلاق، ومنعه ذلك عن الأمَّة ينافي تبليغ الرسالة أيضاً، فليس من المتصور أنْ يلقن الرسول الكريم، بعض ما يتعلق بالأخلاق والآداب أبا هريرة، ويترك الأمَّة من غير أنْ يفيدها بشيء من هذا، من هنا يتأكد لنا أنَّ الوعاء الثاني الذي لم يبثثه أبو هريرة لم يكن فيه ما يتعلق بالأحكام ولا بالآداب والأخلاق ويُرَجَّحُ أنْ يكون بعض ما يتعلق بأشراط الساعة، أو بعض ما يقع للأمَّة من فتن، وما يليها من أمراء السوء، وَيُقَوِّي هذا عندي أنَّ أبا هريرة، كان يكني عن بعض ذلك، ولا يصرِّحُ به خوفاً على نفسه مِمَّنْ يسيئه ما يقوله كقوله: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ رَأْسِ السِّتِّينَ، وَإِمَارَةِ الصِّبْيَانِ» (٢) وقوله: «وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ» (٣). كما كان يدعو «اللَّهُمَّ لاَ تُدْرِكْنِي سَنَةُ سِتِّينَ» (٤).

ولا بد من أنْ نُنَبِّهَ إلى أنه ليس في حديث أبي هريرة هذا، أي دليل على أنَّ للدين ظاهراً وباطناً، ولا يجوز لأحد أنْ يتَّخذه ذريعة لذلك، حتى ينتهي إلى التحلل من الدين ومخالفة أوامره.

وقد حرص أبو هريرة على أنْ يُحَدِّثَ الناس بما يعرفون، حتى لا يكذِّب اللهَ ورسولَهُ، إذا أخبر القوم بما لا تتصوَّره عقولهم (٥)، وقد


(١) [المائدة: ٦٧].
(٢ و ٣) انظر " فتح الباري ": ص ٢٢٧، جـ ١، و " سير أعلام النبلاء ": ص ٤٣٠، جـ ٢. وانظر " البداية و النهاية ": ص ١١٢، جـ ٨. «وفيه ويلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شرٍ قَدِ اقْتَرَبَ، وَيْلٌ لَهُمْ مِنْ إِمَارَةِ الصِّبْيَانِ، يَحْكُمُونَ فِيهِمْ بِالْهَوَى وَيَقْتُلُونَ بِالْغَضَبِ».
(٤) انظر " ترتيب الثقات " لابن حبان: ص ١٧١: ب، جـ ٣.
(٥) من ذلك ما استشهد به ابن تيمية عن تنبُّو الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بعض أمور تقع في المستقبل، وذكر منها في " الصحيحين ": «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا التُّرْكَ، صِغَارَ الأَعْيُنِ =

<<  <   >  >>