فيما سبق مِمَّا ذكرته في كثرة حديثه وسِعَةِ علمه، إلاَّ أنَّ كثرة الحديث وسِعَةِ العلم قد لا تدلان على قوة الحفظ والاتقان، فقد يكون الراوي كثير الحديث غير ضابط لما يروى، فإذا اجتمع العلم الكثير، والحفظ المتقن، كان ذلكغاية ما يتمنَّى أولو العلم.
ونحن الآن بين يَدَيْ حفظ أبي هريرة راوية الإسلام، ومُحَدِّثِ الأُمَّة في القرن الأول، الذي حفظ على الأمَّة حديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما قال عب الله بن عمر.
لقد دعا له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحفظ، وبسط له رداءً كان على ظهره، وحدَّثَهُ، ثم أمره أنْ يضُمَّهُ إليه، فلم ينس بعد ذلك مِمَّا حدَّث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئاً، وكان أبو هريرة، يدعو الله أنْ يهبه علماً لا ينسى، فأمن له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد عرفنا حرصه على الحديث النبوي، حُبَّهُ العظيم للرسول الكريم، الذي وجد عنده الخير كله، فانكبَّ على طلب العلم، من بيت العلم ومنزل الوحي، ومعين المعرفة، وتعلَّق بهذا طيلة حياة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبعد وفاته، فكان يحاول أنْ يعي كُلَّ ما يُحَدِّثُ به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفي ذلك يقول أبو هريرة:«صَحِبْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلاثَ سِنِينَ مَا كُنْتُ سَنَوَاتٍ قَطُّ أَعْقَلَ مِنِّي، وَلا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَعِيَ مَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنِّي فِيهِنَّ»(١).
فقد اجتمع لأبي هريرة عاملان عظيمان هُمَا حُبُّهُ للرسول الكريم وتعلقه به، واندفاعه وراءه في سبيل كلمة يعلِّمُهُ إياها، أو حكمة ينتفع بها، ونحن نعلم ما لهذا العامل النفسي من أثر بعيد في تثبيت تلك الأحاديث في نفس طالبها، والعامل الآخر هو دعاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له بالحفظ، وتشجيعه إياه على ذلك، ونحن نعلم ما لأثر المُرَبِّي والمُعَلِّمِ في توجيه طلابه وتفوُّقهم ونجاحهم، فكيف يكون توجيه معلم الإنسانية وتشجيعه، وخاصة من حيث إنه رسول رب العالمين!!؟ فقد تعاضد
(١) " طبقات ابن سعد ": ص ٥٤ قسم ٢، جـ ٤، رواه قيس بن أبي حازم عن أبي هريرة.