للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كَدَوِيِّ النَّحْلِ، فَدَعْهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَلاَ تَشْغَلْهُمْ بِالأَحَادِيثِ، وَأَنَا شَرِيكُكَ فِي ذلك» (١). هذا معروف عن عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -.

فسياسة عمر هذه لم تكن خاصة لأبي هريرة وحده بل كانت عامة. وهناك ما يثبت أنَّ عمر لم يكذبه ولم يطعن فيه، ولم يُهَدِّدْهُ بالنفي إلى جبال دوس، فقد سبق أنْ سُقْتُ رواية صحيحة للإمام أحمد وفيها أنَّ عمر سأل من كان معه في طريق مكة عن الريح عندما اشتدت فلم يجبه أحد، وعندما علم أبو هريرة بسؤال أمير المؤمنين استحثَّ راحلته حتى أدركه فقال: «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أُخْبِرْتُ أَنَّكَ سَأَلْتَ عَنِ الرِّيحِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " الرِّيحُ مِنْ رَوْحِ اللهِ ... " الحديث» (٢). هذه الحادثة تنفي كل ما رُوِيَ من تكذيب عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لأبي هريرة أو الطعن في حديثه، أو تهديده بالنفي .. وذلك من وجهين:

أولاً - هل يعقل أنْ يستحثَّ أبو هريرة السير إلى عمر، ليحدِّثه لو كان قد صدر من عمر شيء مِمَّا ذكرت؟، لو كان مثل هذا قد صدر - ما حَدَّثَ أبو هريرة أمير المؤمنين، إذ يكون قد اقتنع بأنه لم يسمع منه بل سيُكذِّبُهُ. وهل يعقل من مثل أبي هريرة أنْ يُضرب بالدرة ويُكَذَّبَ وَيُهَدَّدَ بالنفي، ثم يوافق الفاروق في حجه!!؟ هذا بعيد جداً.

ثانياً - وأما بالنسبة لعمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فلا يمكن أنْ يُهَدَّدَهُ أو يُكَذَّبَهُ بعد ذلك لأنه عرف حفظه حين نسي أصحابه، أو عرف سماعه حين لم يسمع أصحابه من الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

ومع هذا فإنَّ تلك الأخبار محمولة على سياسة عمر العامة في التحديث. وقد رَدَّ ابن قتيبة على من ادَّعَى تكذيب الصحابة لأبي هريرة في كتابه " تأويل مختلف الحديث " وبيَّن أنَّ ذلك إنما كان من سياسة عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَتَشَدُّدِهِ على من أكثر الرواية (٣).

وأما ادِّعاء بشر المريسي تكذيب الفاروق لأبي هريرة فهو باطل لا أصل له


(١) " البداية والنهاية ": ص ١٠٧، جـ ٨.
(٢) " مسند الإمام أحمد ": ص ٥٢، جـ ١٤ رقم ٧٦١٩ بإسناد صحيح.
(٣) انظر " تأويل مختلف الحديث ": ص ٤٨.

<<  <   >  >>