للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بَلَغَ أَهْلَهُ دَخَلَ وَتَرَكَنِي عَلَى الْبَابِ فَأَبْطَأَ، فَقُلْتُ: يَنْزِعُ ثِيَابَهُ ثُمَّ يَأْمُرُ لِي بِطَعَامٍ، فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَلَمَّا طَالَ عَلَيَّ، قُمْتُ فَمَشَيْتُ فَاسْتَقْبَلَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، إِنَّ خُلُوفَ فَمِكَ اللَّيْلَةَ لَشَدِيدٌ!!؟» فَقُلْتُ: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ، لَقَدْ ظَلَلْتُ صَائِمًا، وَمَا أَفْطَرْتُ بَعْدُ، وَمَا أَجِدُ مَا أُفْطِرُ عَلَيْهِ. قَالَ: فَانْطَلَقَ فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ حَتَّى أَتَى بَيْتَهُ فَدَعَا جَارِيَةً لَهُ سَوْدَاءَ. فَقَالَ: «آتِينَا بِتِلْكَ الْقَصْعَةِ». قَالَ: فَأَتَتْنَا بِقَصْعَةٍ فِيهَا وَضَرٌ مِنْ طَعَامٍ - أُرَاهُ شَعِيرًا - قَدْ أُكِلَ وَبَقِيَ فِي جَوَانِبِهَا بَعْضُهُ - وَهُوَ يَسِيرُ - فَسَمَّيْتُ وَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُهُ، فَأَكَلْتُ حَتَّى شَبِعْتُ» (١).

وكان أبو هريرة يقول: «نَشَأْتُ يَتِيمًا، وَهَاجَرْتُ مِسْكِينًا، وَكُنْتُ أَجِيرًا لِبُسْرَةَ بِنْتِ غَزْوَانَ بِطَعَامِ بَطْنِي، وَعُقْبَةِ (٢) رِجْلِي، فَكُنْتُ أَخْدُمُ إِذَا نَزَلُوا، وَأَحْدُو إِذَا رَكِبُوا، فَزَوِّجْنِيهَا اللَّهُ , فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الدِّينَ قِوَامًا , وَجَعَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ إِمَامًا» (٣).

وقال إمام التابعين سعيد بن المسيب (١٣ - ٩٣ هـ): رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَطُوفُ بِالسُّوقِ، ثُمَّ يَأْتِي أَهْلَهُ، فَيَقُولُ: «هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟» فَإِنْ قَالُوا: لاَ، قَالَ: «فَإِنِّي صَائِمٌ» (٤).

فلم يكن أبو هريرة نهماً ذا بطنة، وما كان في يوم عبداً لشهوة بطنه، بل كان يكتفي بما يعلِّلُ به نفسه، أو يمسك عليه رمقه، فإذا ما أصبح لديه خمس عشرة تمرة، أفطر على خمس، وتسحَّر بخمس، وأبقى خمساً لفطره (٥).

لقد صبر على الفقر طويلاً حتى أفضى به إلى الظل المديد، والخير الكثير، وبارك الله له في ماله، فكان كثير الشكر لله، يذكر دائماً أيام


(١) " حلية الأولياء ": ص ٣٧٨، جـ ١. و " البداية والنهاية ": ص ١١١، جـ ٨.
(٢) العقبة، أي نوبة ركوبه.
(٣) " طبقات ابن سعد ": ٤: ٢/ ٥٣. و " تذكرة الحفاظ ": ص ٣٢، جـ ١. و " البداية والنهاية ": ص ١١٠، جـ ٨. و " سير أعلام النبلاء ": ص ٤٤٠، جـ ٢.
(٤) " حلية الأولياء ": ص ٣٨١، جـ ١.
(٥) " حلية الأولياء ": ص ٣٨٤، جـ ١. و " البداية والنهاية ": ص ١١٢، جـ ٨. وانظر الباب الثاني في الرد على الشُبه التي أثارها بعض أعداء أبي هريرة.

<<  <   >  >>