هذا ما قال، وهو في غاية الغرابة، وكلُّ هذه الإلزامات التي ذكرها لمسألة إفتاء الجَرمي إلزامات متوهَّمة ليست بلازمة البتةَ، والردُّ على ما قال من جهتين:
الأُولى: أنَّه لا يلزَم أن تُنقَل هذه الفتاوي عنه، بل من المعلوم أنَّ ثمة مذاهب كاملة لفقهاء كبار اندثرت، ولم يصِل إلينا منها شيء.
الثانية: وهي مُنبنِية على الأُولى، وبيانُها أنَّه إذا كانت مذاهب كاملة لفقهاء عِلمهم الأصيل الفقه وقد اشتهروا بذلك عند سائر العلماء من شتى الفنون، والناس كانوا يقصدونهم قصدًا على هذا - قد انتشرت وضاعت، أفيبعُد هذا في حقِّ نحويٍّ لم يكن الفقه فنَّه الأول، وغايتُه أن يكون مشاركًا جيِّدًا فيه (١)، فمِن أين يلزَم انتشار فتاويه شرقًا وغربًا ووجود أناس يحملونها ويُنافحون عنها - كأنه كان في الفقه كالشافعي مَثَلًا! - وغير ذلك من التزيُّد والتمحُّل الذي نحَا الدكتور نحوَه.
هذا مع التنزُّل في قبول هذا الذي نحَا إليه الدكتور، وإلَّا فالأمر أيسرُ من ذلك لولا هذه الحَرفية والظاهرية التي تعامل بها الدكتور مع هذه الحكاية، وهي سبب ما وقَع فيه من التمحُّل والتزيُّد، فليس الأمر كما يريد أن يصوِّره لنا الدكتور من أنَّ الجَرمي كان جالسًا الليلَ والنهار يُفتي الناس ويُعلِّمهم أمور دينهم شأنُه في ذلك شأن الفقهاء الكِبار! بل أكثر الفقهاء الكِبار لم تُنقَل فتاويهم على الحال الذي يُصوِّرها الدكتور.
فظاهر الحاكية لا يُساعد على ما ذهب إليه، والفَهم الصحيح لهذه الحكاية ما قاله الطُّوفي - وهو عين ما قاله الشاطبي، لكن كلام الطوفي فيه بسط؛ فهو أوضحُ وأظهرُ في بيان المراد -، قال في "شرح مختصر الروضة":