للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

"مباحث الأصول والعربية عقلية، وفيهما من القواطع كثير، فيتنقَّح بها الذِّهن، ويقوى بها استعداد النفس لإدراك التصوُّرات والتصديقات، حتى يصير لها ذلك مَلَكة، فإذا توجهت إلى الأحكام الفقهية، أدركتها، إذ هي في الغالب لا تُخالف قواعد الأصول العقلية إلَّا بعارض بعيد، أو تخصيص علة، ومع ذلك فهو لا يخفى على من مارَس المباحث الأصولية.

ولهذا حُكي عن أبي عمر الجَرْمي أنَّه قال: لي كذا وكذا سَنة أُفتي في الفقه من كتاب سيبويه، يعني في النحو، وما ذاك إلَّا لأنَّ مأخذ سيبويه في كتابه في غاية اللطافة، ونظرُه في غاية الدقة، والجري على قواعد الحكمة، والأحكامُ الشرعية - لمن اعتبرَها - من الحكمة بمكان على ما أشرتُ إلى جملة منه في "القواعد" (١)، وهذا رَجُل قد كان ذكيًّا، وله نظر يسيرٌ في الفقه، فعاد يتنبَّه بلطافة حكمة سيبويه ومأخذه في العربية على حُكم الشرع ومأخذِه في الأحكام الشرعية.

ويقال: إنَّ الكسائي قيل له يومًا: ما تقول في المصلِّي يسهو في صلاته، ويسهو أنَّه سها؛ هل يسجد لسهو السهو؟ فقال: لا، فقيل له: ما الحُجة في ذلك، ومن أين أُخذت؟ فقال: إنَّ التصغير عندنا لا يُصغَّر.

قلتُ: فقد اعتبر القَدر المشترك بين الصورتين، وهو أن الحُكم الواحد لا يتكرَّر في محل واحد مرتين، وإنما ذكرتُ هذا المثال؛ لئلَّا يستبعِد بعضُ أجلاف الفقهاء ما حُكي عن الجَرْمي، ويقول: أين النحوُ من الفقه حتى تستفاد أحكامُه منه؟! فبيَّنتُ له أن ذلك مع جودة الذهن، ولطف المأخذ، ودقة النظر،


(١) للطوفي كتابان باسم القواعد القواعد الكبرى، والقواعد الصغرى، ذكرهما في مواضع من شرح مختصر الروضة.

<<  <   >  >>