وإنما قال ذلك لِمَا عرض لهم فيه من الإشكال، وإنما نزلت سورة الفتح بعدَ ما خالَطهم الحُزن والكآبة؛ لشدة الإشكال عليهم، والتباس الأمر، ولكنهم سلَّموا وتركوا رأيَهم حتى نزل القرآن؛ فزال الإشكال والالتباس.
وصار مِثلُ ذلك أصلًا لمَن بعدَهم؛ فالتزم التابعون في الصحابة سيرتَهم مع النبي ﷺ حتى فقهوا، ونالوا ذِروة الكمال في العلوم الشرعية.
وحسبُك من صحة هذه القاعدة أنَّك لا تجِد عالمًا اشتهر في الناس الأخذُ عنه إلا وله قُدوة، واشتهر في قَرنِه بمِثل ذلك، وقلَّما وُجِدت فرقة زائغة، ولا أحدٌ مخالِف للسُّنة إلا وهو مُفارِق لهذا الوصف، وبهذا الوجه وقع التشنيع على ابن حزم الظاهري، وأنه لم يلازِم الأخذ عن الشيوخ، ولا تأدَّب بآدابهم، وبضدِّ ذلك كان العلماء الراسخون كالأئمة الأربعة وأشباههم.
والثالثة: الاقتداء بمَن أخذ عنه، والتأدُّب بأدبه، كما علِمتَ من اقتداء الصحابة بالنبي ﷺ، واقتداء التابعين بالصحابة، وهكذا في كلِّ قرن، وبهذا الوصف امتاز مالك عن أضرابه - أعني بشدة الاتصاف به - وإلا فالجميع ممن يُهتدَى به في الدِّين، كذلك كانوا، ولكن مالكًا اشتهر بالمبالغة في هذا المعنى، فلما تُرِك هذا الوصف، رفَعت البدع رءوسها؛ لأن تركَ الاقتداء دليل على أمرٍ حدث عند التارك أصلُه اتباع الهوى" (١).