لقد كان الصحابة يقرءون كتاب الله بتدبر، ثم يعملون بما فيه، وقد جاء بهم الحبيب صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم في هذه الحضانة الإيمانية في بدايتها، وشحذ هممهم، وركب هذه العقلية والنفسية العربية، وأحاطها بإحاطة إيمانية روحانية فذة، فصار كل صحابي نسخة مصحفية تسير على قدمين.
فلقد كان المعصوم صلى الله عليه وسلم الأسوة قرآناً يمشي على الأرض، تقول عائشة رضي الله عنها:(كان خلقه القرآن)، كذلك كان صحابته الغر الميامين، فكل واحد منهم يمثل نسخة عملية من المصحف يراها الناس رؤيا العين.
يحكى أن أعرابياً جاء وربط ناقته في جدار بستان من بساتين المدينة، ثم نام وغط في نوم عميق، فشعرت الناقة بجوع شديد فقطعت حبلها ودخلت إلى البستان وعاثت فيه فساداً، وحولت البستان إلى خراب من شدة جوعها.
فأتى صاحب البستان فأخذ عصاً غليظةً وضرب الناقة حتى أخرجها من بستانه، فوقعت ضربة على رأس الناقة فماتت منها، فاستيقظ الأعرابي على ناقته وقد ماتت، فثار غضبه، فمن الذي سيعيده إلى قبيلته وهو من أرض بعيدة؟ فصارع الأعرابي صاحب البستان، فلكم الأعرابي صاحب البستان لكمة قضى فيها الرجل نحبه.
واجتمع أهل صاحب البستان على الرجل ليأخذوه للقصاص، فقال الرجل: لي مطلب، قالوا: ما هو؟ قال: أعود إلى عشيرتي لأعطيهم وصية وأعود إليكم مرة أخرى، فتبسم القوم وقالوا: عجباً لك يا رجل! لا نعرفك ولا نعرف اسمك ولا اسم قبيلتك، ولا من أي بلد أنت، ولا من أي عشيرة، ثم نتركك بعد أن تقتل صاحبنا؟! فسمع أبو هريرة هذا الشجار، فلما علم بالمسألة قال: أنا أضمن الرجل، فسار الرجل ومرت جمعة وجمعتان وشهر والرجل ولم يعد بعد، فذهب أهل القتيل إلى أبي هريرة وقالوا له: يا أبا هريرة! أتضمن من لا تعرف؟ قال أبو هريرة: كي لا يقال: إن أصحاب المروءة قد ولوا، فإذا بالرجل يظهر على الأفق، قالوا: عجباً ما الذي أعادك؟ قال: حتى لا يقال: إن أصحاب الوفاء قد ولوا، فإني قد عاهدت أن أعود ولابد من الوفاء بالعهد، فقال أهل القتيل: ونحن قد عفونا كي لا يقال: إن أصحاب العفو قد ولوا.
فأين أصحاب المروءة في زماننا؟ وأين أصحاب الوفاء في زماننا؟ وأين أصحاب العفو في زمننا؟ فهذه هي أخلاق القرآن وأخلاق المتدبر لكتاب الله عز وجل، إن هناك أناساً قد يقرءون القرآن ليصير حجة عليهم لا حجة لهم، فأنت تحكمك عدة محاور: زمان ومكان وأحداث.