[حياء العبادة]
القسم الثاني: حياء العبادة، كما أخبر تعالى عن الملائكة أنهم {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:٢٠] أي: لا يحصل لهم فتور كما يحصل لنا، فالملائكة في حالة دائمة من العبادة، قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا حشروا بين يدي مولاهم عز وجل قالوا: سبحانك! ما عبدناك حق عبادتك)، فهذا حياء العبادة، فالله سبحانه وتعالى عصمهم من الزلل: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم:٦]، وهذه الآية هي الحجة الكبيرة للعلماء القائلين إن إبليس لم يكن من الملائكة، لأن من صفات الملائكة: أنهم {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:٦]، بل إنه من الجن لقوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:٥٠]، وأنا أميل إلى هذا الرأي.
وحياء المؤمنين أنهم يعملون الطاعات ويخافون ألا يتقبل الله منهم، ولما قرأ الرسول صلى الله عليه وسلم: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:٦٠] قالت عائشة: (أهم الذين يرتكبون الفواحش ويسرقون يا رسول الله؟ قال: كلا يا عائشة، إنهم يصلون ويصومون ويتصدقون ويخافون ألا يتقبل منهم)، فهذا حياء العابد؛ لأنه يفعل الخير ويخاف أنه لا يتقبل منه.
وأنت لو أنك زرت وزيراً من الوزراء فإنك ستأخذ له هدية تليق به، وستختار نوع الورقة التي تضع فيها الهدية؛ لأنها ذاهبة إلى عظيم؛ ولذلك قال لنا أهل العلم رحمهم الله: إن الصلاة عبارة عن مهر، وهل يقدم من المهور إلا ما كان كاملاً؟ ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر فالذي يخطب امرأة فطلب أبوها مبلغاً باهضاً كمائة ألف جنيه، فإن الخاطب سيدفع ذلك إذا كان راغباً فيها.
والشيماء بنت العلاء الحضرمي كان أبوها العلاء الحضرمي من أغنى أغنياء العرب، وكان من ضمن الذين يقولون عليهم: مطاعيم الريح، يعني: إذا ما لقى شخصاً يؤكله فإنه يؤكل الريح، فإنه يضع الحبوب في الريح فلعلها تأخذه إلى أحد يأكله، وكان العلاء الحضرمي والوليد بن المغيرة يسميان: زاد الركب، أي: الركب المسافرين الذين لا يملكون طعاماً ولا كساء، فإنهما يمولان من قبلهما.
وكان الوليد يكسو الكعبة عاماً وقريش تكسوها عاماً، وكان يقول: لولا حرجي من قومي لكسوتها كل عام، فقد كان فيه صفات طيبة، مثل صفة الكرم التي هي صفة المؤمن.
وفي غزوة الخندق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: من يأتني بخبر القوم وأضمن له الجنة؟ وقد كانت الليلة شديدة البرد، فما استطاع أحد أن يقوم من مكانه، فكررها رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرة الثانية، فما قام أحد، وسيدنا حذيفة رضي الله عنه يقول: كنت ألتحف ورجل جواري بكساء رقيق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا حذيفة بن اليمان! فقام في شدة البرد ونزل الخندق في الليل وكان ظلاماً دامساً لو أخرج أحد يده لم يكد يراها، حتى توغل داخل جيش المشركين وجلس يتحسس الأخبار لرسول الله كسرية استطلاع، فإذا بـ أبي سفيان ينادي: ليحدث كل واحد منكم أخاه أو من بجواره وليسأله عن اسمه فإني أرى فتنة، فـ أبو سفيان له حاسة في الحرب، وهو أيضاً رجل زعيم في قومه، فـ حذيفة قال: فأمسكت بيد من بجواري فقلت لكل منهما: من؟ قالا له: فلان وفلان، ثم خرج من بينهم سالماً غانماً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سيهزم الجمع ويولون الدبر.
فقال عمر بن الخطاب: كنت أسأل نفسي: أي جمع سوف يهزم نحن أم هم؟ وتقع الشيماء بنت الحضرمي في الأسر، وقد أسرها جليبيب، وهو رجل كان يخدم الرسول ولا أحد يعرف اسمه، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلها لي يا رسول الله! فغبطه الصحابة، أي: تمنوا مثل نعمته، أما تمني زوال النعمة من الغير فهذا حسد، والمؤمن يغبط والمنافق يحسد.
فالصحابة قالوا له: سوف تصير من الأغنياء يا جليبيب، فإنك لو طلبت من مال العلاء بن الحضرمي إلا وأعطاك؛ فإنه أغنى أغنياء العرب وابنته في الأسر.
فجاء العلاء بن الحضرمي ليفك أسر ابنته، فقال له: يا جليبيب! كم تريد؟ قال جليبيب: أريد ألف دينار، قال: يا جليبيب! أما تطلب شيئاً أكثر من هذا؟ قال: وهل هناك أكثر من الألف؟ فقالت الشيماء: يا أبتي! زوجني جليبيباً.