فرار السعداء ثلاثة أقسام: فرار العامة، وفرار الخاصة، وفرار خاصة الخاصة.
أما العامة الذين مثلنا فيفرون من الجهل إلى العلم، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن الشك إلى اليقين، ومن الضيق إلى السعة، فهذا فرار العامة، وإن قال قائل: وهل نحن نستطيع أن نفر الفرار الذي ذكرته هذا؟! أي: أن ننتقل من الجهل إلى العلم ونحوه؟ فتقول: نعم يدرك هذا أصحاب العزائم والصدق مع الله، فيفرون من الجهل إلى العلم، ومن الضيق -أي: ضيق الدنيا- إلى سعة الآخرة، ولا تظن أن الدنيا فيها سعة أبداً، فالله عز وجل يأتي يوم القيامة بأبأس أهل الأرض، يعني: يأتي بشخص فقير دوماً لم ير يوماً يهنأ فيه أبداً، ولكنه اتقى الله، يعني: كان الرجل يصلي ويصوم، ويده ليست طويلة إلى الحرام، فهذا يغمس في الجنة غمسة فقط، فيخرج كالقمر ليلة التمام، فيقول الله له: عبدي! هل رأيت بؤساً من قبل قط؟ فيقول: وعزتك وجلالك أنا في النعيم منذ أن خلقتني، فغمسة واحدة أنسته بلايا الدنيا.
ويؤتى بأنعم أهل الأرض ولكنه لم يتق الله، فيغمس في النار غمسة، فيخرج كالفحمة السوداء، فيقول الله له: عبدي! هل رأيت نعيماً من قبل قط؟ فيقول: وعزتك وجلالك أنا في الشقاء منذ أن خلقتني، فانظر أخي! غمسة واحدة في الجنة، وأخرى في النار ماذا صنعت! ولذلك العبد الصالح عندما يأخذه الناس على أعناقهم بعد موته يرى عمله أمامه، وعندما يمشون به يقول: علام تبطئون بي؟ لو تعلمون ما ينتظرني من الخير لأسرعتم بجنازتي، إذاً: فهو يرى الذي أمامه.
والآخر -أي: العاصي- يقول: علام تسرعون بي؟ ولذلك سيدنا عمر قال: عندما تحملوني فاجروا بالجنازة جرياً، قالوا: لماذا يا أمير المؤمنين؟ قال: إن كان خيراً فقد قدمتموني إليه، وإن كان شراً فقد سرحتموه من فوق أعناقكم.
فهذا فرار العامة من الجهل للعلم، ومن الضيق للسعة، ومن الشك لليقين، أي: لا يكون المؤمن قلقاً من غد، لكن عنده يقين تام، فما دام غداً من عمري فسيأتيني رزقي.
لو أن لي قرشين في الحكومة، أو في القطاع الخاص أو في أي مكان قد كتبها الله لي، وأنها من رزقي، فستأتيني، ولو أصدرت الأمم المتحدة قراراً بمنع الصرف لك فسيصرف لك، فلو أن من في الأرض جميعاً اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشي قد كتبه الله لك، وكذلك لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف، وفي رواية:(رفعت الأقلام، وطويت الصحف)، وهذه أبلغ؛ لأنها تعني: أن الصحف قد حفظت بعد الكتابة.