للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مفهوم الإحسان في الأحوال]

إن للعبد في العمل أمرين: فرض ونفل، فهنالك أناس يكتفون بالفرض، (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد، ثائر الرأس نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول، حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل علي غيرهن؟ قال: لا إلا أن تطوع، وصيام شهر رمضان، فقال: هل علي غيره؟ فقال: لا إلا أن تطوع، وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة فقال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع، قال فأدبر الرجل، وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق).

إذاً: الرجل عنده إيجابيات وليس عنده سلبيات، لكن نحن عندنا سلبيات وعندنا قليل من الإيجابيات، وقد شبهنا الفرض والنفل بالبيت الذي له حديقة محيطة به، فالذي يريد أن يدخل البيت لابد أن يدخل أولاً على باب الحديقة، ثم بعد ذلك يدخل على الممر، ثم يصل إلى الباب الأساسي للبيت، ولابد أن يفتح الباب وإن قفز من الجدار إما أن يكون الحرس قد رأوه، أو أصحاب البيت، أو كلب الحراسة، أو جهاز الإنذار أو إلى آخره، فليس بالسهولة أن يدخل مباشرة.

هذا مثال الفرض والنفل، الفرض: هو البيت، والنفل: هو الحديقة، فيأتي الشيطان يريد الدخول، يدخل أولاً على الحديقة أي: على النفل، يأتي وأنت تصلي ركعتي العشاء، فيقول لك: أنت متعب هذا النهار لا داعي لهاتين الركعتين، أو الأفضل أن تجعلها قبل الفجر، أصلي الشفع والوتر يقول: لا داعي للشفع والوتر أنت اليوم متعب، لكن لو أنك صليت العشاء فقط، ماذا يقول لك: إنك طوال الليل مرهق فنم وقبل الفجر تصليها.

إذاً دخل لك مباشرة على الفرض نفسه.

إذاً: يريد منك الشرع أن تحوط الفرض بالحديقة، وهذه الحديقة هي النوافل التي تصليها، وبالعكس تجده في حالات يسمع آية من كتاب الله يخر بكاءً فينفعل في البكاء، ويسمع نفس الآية في اليوم الثاني فلا يتحرك له ساكن أبداً، وتجده كذلك عندما يجلس في مجلس علم من باب أنه يشغل وقت الفراغ، تعود على أنه يذهب إلى هذا الدرس، ويعجبه ذلك الرجل الذي يتكلم، لكن في حالات أخرى يجلس في مجلس العلم منصتاً بكل جوارحه، متشوقاً إلى المعرفة، يتمنى ألا ينتهي هذا المجلس، ويريد أن يستمر، يقول: يا ليت أني لا أخرج من هنا، مرة ثانية، يجد نفسه تواقة إلى الشهادة في سبيل الله، يقول: يا لله! لو أنهم فتحوا باب الجهاد حتى نضمن الجنة، ونضمن أن تغفر ذنوبنا، ونضمن أن الله جل وعلا يمسح لنا الصفحات السود الماضية! ولحظات أخرى ينظر فيها إلى الأولاد والزوجة والأموال والمنصب، فيقول: أنا لو مت سأترك هذا كله؟! هانحن نجاهد أنفسنا على لقمة العيش، ونجاهد في قيمة السيارة، وكل واحد على قدر استطاعته! هكذا الإنسان لا يبقى على حال واحد، يعني: سبحان الله يكون حاله مثل المرتفعات والمنخفضات، يصعد فوق وينزل تحت، وهكذا الحالات الإيمانية! حتى في المنام ترى أحياناً رؤى جميلة طيبة، فتنظر الجنة وما فيها من نعيم وتنظر إلى مجلس العلم وربما تنظر سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم، وتنظر الصحابة، وفي حالات تنظر إلى كوابيس، فترى البيت أنه حصل له إخلاء إداري، والشارع حصل له كذا وكذا والدرجة الوظيفة التي ستأتي لك من الوزارة أخذها صاحبك! فتقوم مكتئباً.

لحظات أخرى تجد -سبحان الله العظيم- زوجتك نفسها معك في الدنيا صالحة مستقيمة ومطيعة تقول: حاضر يا حاج! ربنا يبارك لنا فيك، ربنا يخليك، وتجدها في بعض أيام تقول: اغرب عن وجهي! الله يجازي الذي كان السبب في هذه الزواجة السوء، وهي نفسها الحالات التي تكون عندك أيضاً، مرة تكون راضياً عنها تقول: كثر الله خيرها، متحملة لتصرفاتي، ومتحملة أتعابي أنا وأولادي، وصابرة وساكتة! وسبحان الله! وهاهي محبوسة في البيت شغالة، طباخة، وكناسة، وتهدئ الأولاد، وتعطف على الصغير، وتحن على الكبير، الله يعينها ويقويها وهكذا.

فالعبد لا يبقى على حال، وأنا لا أتكلم على رجل آخر، وكلنا هذا الرجل، وكلنا يحصل لنا هذه الأحوال، لابد أن نرصد حركة الإيمان داخل القلب، ولابد للمؤمن أن يكون له نظرة يحاسب نفسه فيها، يقول: لماذا هذا؟ لماذا؟ لماذا؟ لا يكون الإنسان على وتيرة واحدة، ما الذي جعل الصحابة أنهم دائماً يطمحون إلى الأعلى، ونحن نصعد درجة وننزل عشرين درجة، نصعد ثلاث درجات وننزل خمسين درجة، لماذا؟ ما الذي يحصل؟ قلنا من قبل: إن البيئة المحيطة لها أثر على حالة العبد الإيمانية هذا أولاً.

يعني: لو عدت من صلاة التراويح إلى البيت منفعلاً، وتبكي على قضية إخواننا في فلسطين، وتتخيل لو أننا نصلي الفجر ثلاثة أو أربعة صفوف منا فقتلوا بأيدي كفار ماذا كنت تصنع؟ وماذا يجب عليك أن تعمل؟ وتخيل الآن أن لك أقارب في طنطا أو الإسكندرية أو في أصوان أو في أي بلد سبحان الله، وبلغك أن إخوانك -يعني: أولاد أمك وأبوك- دخل عليهم مسلم فقتلهم، ماذا يكون شعورك؟! فمن أجل أنهم نزعوا الإخوة منا أصبحنا لا نشعر بالمشكلة، وتصير الحياة أمراً عادياً يقول لك: يا عم! الله يرحمهم هذا مكتوب لهم، ويريد ألا يسمع عنهم شيئاً، ولا يريد أن يتحمل مسئولية، ولا أن يتحمل هم الدعوة، ولا هم الرسالة، ولا هم الإسلام سبحان الله.

فالبيئة المحيطة لها أثر على العبد، يرجع من المسجد يفتح التلفاز، إذاً الناس في عالم آخر، يدخل النادي، يمشي في الشارع الله الله الله ما هذا الكلام الذي يقوله الشيخ عمر؟! فإن الناس نائمون ليس في العسل فحسب، يا ليتهم في العسل! الذي ينام في العسل ينام على شيء جميل، لا، هؤلاء نائمون في مجار والله، ينام أحدهم في رائحة عفنة؛ لأن الإيمان قد تبخر، فكانت البيئة الإيمانية للصحابة تشجع على التقوى والقرب من الله، كان سيدنا عمر يمسك بيد أبي موسى الأشعري ويقول: يا أبا موسى اجلس نؤمن بالله ساعة، عجيب! وهل كان عمر ليس مؤمناً قبل ذلك؟! كلا، وإنما مراده: يزيد إيماننا بالذكر وبالعلم إلى غير ذلك، يعني: يريد من يأخذ بيده إلى الخير.

هل كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى من يقرأ عليه القرآن؟ كلا، ولكن قال: (إني أحب أن أسمعه من غيري)، من أجل أن يسمع صلى الله عليه وسلم ويبكي عندما يسمع كتاب الله، انظر إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام يقوم طوال الليل بآية واحدة يقرؤها ويبكي، وهي قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:٤١] تخنقه العبرات صلى الله عليه وسلم، ويعيدها مرة أخرى ويبكي، ويعيدها مرة أخرى حتى يؤذن بلال لصلاة الفجر، وهو مشغول بالله عز وجل، وأنت تسمع أزيزاً لصدر رسول الله -وهو يقرأ القرآن- كأزيز المرجل، انظر إلى الوعاء عندما يغلي عليه الماء وقد وضع فيه الخضار أو اللحم وهو على النار.

هكذا كان صدره صلى الله عليه وسلم من بكائه لله، يقول: (أنا أقربكم إلى ربي، ولكني أشدكم خشية)؛ لأنه قريب إلى رب العباد سبحانه وتعالى، بل ربما في بعض الأوقات يخرج إلى البقيع وإلى شهداء أحد، فيبكي ويقول: (كم وددت أن أوارى معهم في بطن هذا الجبل)، يا ليتني رزقت الشهادة مع إخواني! وكان له حنان حتى على الجبل الأصم، يقول: (أحد جبل يحبنا ونحبه) مع أنك تكره المكان الذي قتل فيه أخوك ولا تحبه.

فالرسول عنده حنان؛ لأن الجبل يعتبر وسيلة إلى وصول صحابته صلى الله عليه وسلم إلى جنة الرضوان، فالرسول يحب الجبل، وشعر أن الجبل يبادله نفس الحب صلى الله عليه وسلم، فكان في توافق ما بينه وبين الطبيعة من حوله، والطبيعة متوافقة مع خلقة وطبيعة ومع إيمان عظيم موجود في قلب الرسول الرءوف الرحيم بالأمة صلى الله عليه وسلم.

فالأحوال التي يتقلب فيها الإنسان والبيئة لها أثر في ذلك، وهل نترك أنفسنا إلى البيئة؟! إذا انتشر الوباء فما هو الحل؟ الحل هو: أنني آخذ مصلاً ولقاحاً مضاداً لهذا الوباء، أو أنني لا آخذ أي نوع من العلاج وما يجري على الناس يجري علي! ما الذي سيحصل عندئذ؟ يهلك الشخص ويموت، فإذاً: عندما يحصل الوباء يبدأ الإنسان يقوي جرعته الإيمانية، التي تستطيع أن ترد كيد الميكروبات أو الجراثيم أو الفيروسات التي تتكثف في هذا الجسد، وهكذا الجسد الإيماني أو الطبيعة الإيمانية في قلب العبد كوباء محيط بها، كل شيء مما حولك يريد أن يصل بك الأرض، سواء كان والداً أو زوجة أو جاراً أو كان في العمل، أو في البيئة أو في التلفاز، أو كان في المجلة سبحان الله! يعني: البيئة المحيطة كلها عبارة عن وباء، وأنت قد تصاب بها؛ لأن الإيمان مهزوز، فلابد من تقوية جانب الإيمان؛ كي تتغلب على هذه الأوبئة، لابد من التغلب عليها بتقوية الجسد، فكان العلماء الصالحون يعلموننا، ويقولون: يا ربنا! لا نسألك رفع البلاء، ولكن نسألك تقوية الظهر، يعني: البلاء موجود موجود، ولكننا يا ربنا لا نقول لك: أزل البلاء؛ لأن البلاء هو واقع بنا لا محالة، ولكننا نسألك أن تقوي ظهرنا، وتشرح صدورنا وتقوي إيماننا، اللهم قو إيماننا يا رب العالمين! ثانياً: كما قال سيدنا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: إني بليت بأربع ما سلطوا إلا لجلب مشقتي وعنائي إبليس والدنيا ونفسي والهوى كيف الخلاص وكلهم أعدائي أبو بكر يقول: تجمع علي إبليس ودنياي وهواي ونفسي، فإذا كان أبو بكر قد اجتمع عليه هؤلاء الأربع، فنحن من الذي اجتمع علينا؟! فعند أن هجم على أبي بكر هؤلاء الأربعة تقوى بطاعة الله عز وجل، فهزمهم، فماذا صنعنا نحن للأربعة التي هجمت علينا؟ سبحان الله، فإذا كان هؤلاء الأربعة ضد الصديق، فكيف بضدنا نحن وهم أربعمائة أربعة آلاف أربعون ألفاً؟ أنا أكاد أجزم أنهم أكثر من أربعين مليون، فعلى هذا قلت: إنني أذهب لأصلي الفجر وأسمع درس الصبح، أقسم بالله أن

<<  <  ج: ص:  >  >>