الأمر الأخير الذي أذكره ومن أجله ندرس التاريخ ونمر على مراحل مختلفة من التاريخ الإسلامي: هو أن التاريخ المجيد عزة لصاحبه، فعندما أذكر مراحل من التاريخ فيها نوع من العزة والسمو والرفعة، ترفع رأسك افتخاراً بالانتماء لهؤلاء السلف، وهؤلاء الأجداد الذين أضافوا وأضافوا لمسيرة الإنسانية بصفة عامة، وليس لمسيرة الأمة الإسلامية فقط، ترفع رأسك فعلاً، وهذا أمر مشاهد ومجرب، ففي فرنسا كان هناك مجموعة من الشباب المراهقين الصغار الذين يتراوح أعمارهم ما بين (١٤) و (١٥) سنة، وهم من المسلمين الذين تربوا في فرنسا، ومعظم هؤلاء مولود في فرنسا كان مدرسهم يتكلم معهم في العزة الإسلامية والكرامة الإسلامية والفخر بالإسلام، فلا يجد عندهم مردوداً لهذا الكلام، ويشعرون بشيء من الخزي؛ لأن العالم كله الآن على المسلمين، والمسلمون الآن مستضعفون، ووضعهم كما ترون، والشاب هناك لا يرى أن هناك أملاً في القيام ولا يرى أن هناك فرصة للنهوض، ففي يوم من الأيام أقيم معرض في باريس للاختراعات الإسلامية أو الإسهامات الإسلامية في العلوم، وكان معرضاً رسمياً حكومياً أقامته فرنسا تحت رعاية المركز الفرنسي للدراسات العربية، فجمعوا فيه من المتاحف المختلفة الموجودة في أوروبا الاختراعات التي عملها المسلمون في التاريخ، ووضعوها في معرض واستمر هذا المعرض حوالي أسبوعين أو ثلاثة، ومن يدخله يدفع قيمة تذاكر وما إلى ذلك، فعملوا رحلة لهؤلاء الأطفال أو الشباب المسلمين إلى هذا المعرض، وفي أثناء ذهابهم إليه وهم في السيارة كان المشرف يتحدث معهم وهم في حالة يرثى لها من الأمور المتعلقة بالعزة أو بالكرامة أو برفع الرأس؛ لكونهم من المسلمين، فذهبوا إلى المعرض ورأوا الإنجازات الإسلامية والإسهامات العظيمة التي أضافت وأضافت الكثير لمسيرة الإنسانية، فعادوا بروح مختلفة تماماً، عادوا رافعين رءوسهم، وأن أوروبا هذه التي يعيشون فيها حالياً، والتي كانوا ينظرون إليها النظرة العالية جداً، وأنها قارة قد سبقت المسلمين بقرون طويلة، عادوا وهم ينظرون إليها على أنها تابعة للمسلمين وليست سابقة، فمعظم العلوم الأوروبية نتجت عن علوم المسلمين التي نقلت إلى أوروبا، وأوروبا كانت في حالة من الجهل الشنيع في كل فروع العلم، وكان المسلمون متفوقين في كل فروع العلم، ورأوا ذلك مكتوباً ومنصوصاً وموثقاً بالحقائق العلمية وبالصور المؤكدة، وببعض الأجهزة التي وجدت في هذه المتاحف، ونُقلت من بلاد المسلمين إلى بلاد أوروبا في مراحل مختلفة من مراحل التاريخ، وجدوا هذا وشاهدوه رأي العين، واستمعوا إلى الشرح، وعرفوا تقدير العلماء الأوروبيين لعلماء المسلمين السابقين، ولك أن تتصور مدى الحماسة والحمية التي عادوا بها من هذا المعرض، وانطلقوا بعد ذلك للعمل.
إذاً: عندما أتحدث عن قصة في التاريخ فإنها ترفع روحك المعنوية وتريك ما الذي فعل أجدادك والسلف في مسيرة العلم، وستتشجع إلى أن تفعل مثلهم وأعظم، وتقود الأرض كما قادوها وأعظم، وهذا مشاهد في مراحل مختلفة كثيرة في التاريخ الإسلامي.
الشيء اللطيف والجميل أن مسيرة العلم في التاريخ الإسلامي كانت مسيرة متفوقة في مراحل كثيرة جداً، حتى في مراحل الضعف السياسي والعسكري، أي: في أيام سقوط المسلمين أمام التتار وأمام الصليبيين، وفي ظروف صعبة جداً من تفكك وفرقة في العالم الإسلامي ومع كل هذه الظروف تجد أن المسيرة العلمية كانت متقدمة، وأن العلماء المسلمين كانوا سابقين بشكل لافت للنظر، لكن الانطباع والتصور الذي عندنا اليوم وعند العالم عن التاريخ الإسلامي انطباع وتصور سياسي فقط، وللأسف لا نعرف من تاريخنا إلا الأمور السياسية فقط، ومع ذلك فهي مشوهة، لا نعرف إلا انحراف بعض الخلفاء، ولا نعرف إلا الفتن والصراعات التي دارت، ولا نعرف إلا المؤامرات والمكائد والمصائب والكوارث، لا نعرف إلا هذا التاريخ، حتى عندما نتكلم عن عزّة الإسلام والمسلمين لا نتحدث إلا عن حطين وعين جالوت والزلاقة والأرك والمواقع التي انتصر فيها المسلمون، وهي مواقع عظيمة حقاً، ولكنها ليست الوجه الوحيد للتاريخ الإسلامي، فهناك وجوه حضارية هائلة عظيمة للتاريخ الإسلامي، منها: هذا الوجه العلمي الذي نحن بصدد الحديث عنه في هذه المجموعة من المحاضرات، ولكن نحن -مع الأسف- ليست لدينا هذه المعلومات، فإنني عندما أسألك: ماذا تعرف عن أبي كامل المصري؟ ولعل الناس أول مرة تسمع بهذا الاسم، ولو عرفته فقد لا تعرف عنه سوى سطر أو سطرين، ولا تعرف قصة حياة هذا العالم الجهبذ الذي قاد مسيرة العلم في العالم بأسره فترة طويلة من الزمان، من يسمع عن أبناء موسى بن شاكر أول فريق علمي في العالم في الميكانيكا والهندسة وعلم الحيل كما يسمونه، كانت لهم اختراعات متقدمة ومتفوقة استطاعوا أن يصلوا إليها؟ من يعرف تفصيلات حياتهم وطريقتهم في البحث ومؤلفاتهم، وتأثيرهم في الحضارة الغربية وفي أوروبا بصفة عامة؟ من يعرف أبا الفتح الخازني أو ابن الح