المحور الأول في قضية العلم: هو البيت، فالمرأة مسئولة عن إخراج علماء من بيتها، ليس بالضرورة أن تكون المرأة هي التي تقود حركة التغيير في قضايا العلم، ولكن هي مسئولة عن إخراج الزوج والأولاد في صورة علمية جيدة، تهيئ الجو المناسب للزوج ليبدع وينتج، تحمسه على الإبداع وعلى الاختراع وعلى التفوق والتقدم، توفر له الجو الهادئ المناسب، تضيق أحياناً على ظروف المعيشة في داخل البيت؛ لأجل توفير كتب العلم، وهذا ينبغي أن يترسخ بداخلنا، أنا أرى الناس التي تتزوج تفكر أن تأتي بغرفة نوم وغرفة سفرة، وصالون وأجهزة كهربائية وكذا وكذا، وقد لا يخطر على بالهم أن يشتروا مكتبة قيمة، وتكون من ضمن الأمور التي ستبدأ بها الحياة الزوجية، ليس مهماً أن تكون المكتبة القيمة في الخشب، أو في الشكل الخارجي، لا، أنا أقصد مكتبة قيمة فيها الكتب المتنوعة النافعة لك ولأسرتك، فالزوجة تستطيع أن تهيئ هذا الجو في داخل البيت، والأهم من ذلك أيضاً الأولاد، وكلنا نرى ظروفنا كرجال في هذا الآونة التي تعيش فيها الأمة للأسف الشديد، كلنا مشغولون فمنا الذي يشتغل في الصبح وبعد الظهر وبين كذا وكذا، ومنا الذي لا يرجع إلى البيت إلى في منتصف الليل أو بعد ذلك، ويستيقظ الصبح باكراً وينطلق إلى عمله، وهذا ليس عذراً للأزواج، ولكن هذا واقع نرصده، والزوجة هي التي تبقى مع الأولاد، فهل سيكون أولادك كـ البخاري وكـ مسلم وكـ أحمد بن حنبل وكـ الشافعي وكغيرهم من علماء المسلمين رحمهم الله جميعاً، أو كـ جابر بن حيان وكـ الرازي وكهؤلاء الذين غيروا وجه التاريخ، أم سيكون إنساناً بسيطاً عادياً من الصعوبة بمكان أن يعرف بعض المعلومات عن دينه وعن حياته وعن أمته؟ هذا دور في غاية الأهمية.
نقف وقفة مع زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه، ومع أمه رضي الله عنها وأرضاها، فـ زيد بن ثابت وهو طفل صغير عمره ثلاث عشرة سنة أراد أن يخرج للقتال في بدر واشتاقت نفسه للجهاد في سبيل الله وهو لا يزال صغيراً، لأن حركة المجتمع كله كانت متجهة للجهاد، فارتفعت حميته للجهاد في سبيل الله، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام رآه صغيراً فأشفق عليه فرده، فبكى زيد بن ثابت حباً واشتياقاً للجهاد، ورجع إلى البيت وهو يبكي، فقالت له الأم: ما يبكيك؟ فقال: ردني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجهاد في سبيل الله، فقالت: إن كنت لا تستطيع أن تجاهد بالسيف كما يقاتل المقاتلون، فأنت تستطيع أن تخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام بالعلم الذي عندك، أنت تقرأ وتكتب وتحفظ من القرآن ما لا يحفظ غيرك، وتقرؤه كما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعال نعرض هذه الإمكانيات على الرسول صلى الله عليه وسلم فقد يستغلها.
انظروا إلى الأم الفاهمة الواعية للشرع.
هناك بعض الإخوة لما يغلق باب الجهاد يعتقد أن القضية انتهت، وما عليه إلا أن يقعد إلى أن يفتح باب الجهاد، نقول: لعله لا يفتح باب الجهاد في حياته، فالمسلم لا يقعد ويركن أبداً، فـ زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه أغلق أمامه باب ففتحت له أمه باباً آخر، ألا وهو باب العلم، وذهبت به إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وعرضت عليه الإمكانيات التي عنده، فسمع منه صلى الله عليه وسلم واختبره، فقرأ زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه أمامه القرآن وأحسن القراءة، وهو أيضاً يكتب، وهذا نادر في هذه البيئة، فقال له: اذهب وتعلم لي لغة اليهود؛ فإني لا آمنهم على كتابي، وذهب زيد بن ثابت فتعلم اللغة العبرية في سبع عشرة ليلة، ستقول لي: كيف استطاع أن يعمل هذا؟ سأقول لك: لا أعرف، لكن هو ربنا سبحانه وتعالى بارك له في وقته، أو لعله كان يعرف بعض الأمور عن اللغة العبرية وأتقن هذه اللغة في هذه الأيام السبعة عشر، لكن الظاهر أن ربنا بارك له في وقته وبارك له في علمه، وفتح له أبواب الخير، وعاد يتكلم اللغة العبرية كأهلها، وبعثه الرسول عليه الصلاة والسلام ليتعلم لغة أخرى وهي السريانية فتعلمها، ثم أمره بكتابة الوحي، وصار من كتبة الوحي، فمات الرسول عليه الصلاة والسلام في سنة إحدى عشرة من الهجرة، وأوكل الصديق رضي الله عنه وأرضاه لـ زيد بن ثابت مهمة جمع القرآن، وكان عمره حينها ثلاثاً وعشرين سنة.
انظر ثلاثاً وعشرين سنة في زماننا يكون وقت التخرج من الجامعة، فـ زيد بن ثابت أوكلت إليه مهمة من أثقل المهام في تاريخ البشرية جمعاء، إنها مهمة جمع كتاب الله عز وجل ليحفظ إلى يوم القيامة، كل واحد فينا وفي أي بلد في العالم وفي أي زمن من الأزمان يقرأ في كتاب ربنا سبحانه وتعالى يعطي زيداً أجراً، دون أن ينقص من أجورنا شيئاً إن شاء الله، فهذا عمل أفاد الأمة الإسلامية، وهو من جانب العلم وليس من جانب الجهاد كما ذكرنا.