كذلك ابن عقيل الحنبلي رحمه الله كان يقول: أنا أحب سف الكعك على أكل الخبز؛ لأن سف الكعك لا يأخذ وقتاً، وأكل الخبز أنتظر حتى أقطع وأغمس وغير ذلك، فتذهب الأعمار في الأكل.
ونحن في هذا الوقت نأكل الشوربة، ثم الشاي، فما أن ننتهي من الشاي إلا وتأتي الأكلة الثانية.
فهم لم يكونوا يأكلون بكثرة، وإذا أكلوا أكلوا بسرعة، فهو يحب سف الكعك على أكل الخبز؛ لأن الخبز يأخذ وقتاً، والكعك يأخذ ثلاث دقائق تقريباً، فلو وفرت دقيقتين في كل أكلة فأنا آكل مرتين أو ثلاثاً في اليوم، فحوالي ست سبع دقائق في اليوم زيادة، فهذا إنجاز، فأنت حينما تقول: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم ستقولها في ثلاث ثوان أو أربع ثوان، فتكون قد غرست نخلة في الجنة في هذه الثواني، هل لهذه الثانية قيمة أم لا؟ لها قيمة ضخمة جداً، كذلك كلمة: استغفر الله قلتها في ثانيتين، كذلك قولك: أستغفر الله، أستغفر الله بعد الصلاة في كم تؤديها، واحسب سبحان الله والحمد لله، والله أكبر (٣٣) مرة لكل منها في كم تكون من الوقت.
فهناك أناس يبخل ويعجز أن يعمل هذه الأشياء، لكن قد يبقى ساعتين وربما أكثر من ذلك أمام المباراة، فيفرغ الأوقات غير محلها.
وابن عقيل يقول عنه الذهبي: إنه استطاع أن يؤلف أكبر مصنف في الدنيا، وهو كتاب (الفنون)، أي: فنون اللغة، وفنون التفسير، وفنون المناظرات، وفنون الكلام، وفنون الفلسفة وغير ذلك، فكل العلوم التي تتخيلها في كتاب الفنون، فهو (٨٠٠) مجلد، وليس فيه أي كلام، بل قرأ كتابه علماء أفذاذ، فقالوا: وقد أتى فيه من الأعاجيب ما لم يأت أحد قبله رحمه الله، كـ ابن الجوزي في تعليقه عليه، وكـ الذهبي في تعليقه عليه، وابن كثير في تعليقه عليه.
وكان ابن عقيل رحمه الله يقول: إنه لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري.
انظر إلى نظرته إلى الوقت، فالقضية عنده ليست قضية فضل، فهو يرى أن تضييع الوقت حرام، يقول: إنه لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح على السرير.
يعني: عندما أستريح من عناء المذاكرة وعناء المطالعة وعناء التدريس والمناظرة، فقبل أن أنام أعمل فكري في مسائل وأنا مستطرح على الفراش، فلا أنهض من الفراش إلا وقد خطر على بالي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في الثمانين أشد مما كنت أجد وأنا في العشرين.
هذا كلام ابن عقيل؛ ولهذا عمل كتاب الفنون في (٨٠٠) مجلد.