لقد كان سليمان بن عبد الملك الخليفة الأموي المشهور في الحج، وكان معه اثنان من أولاده في الحج، فاحتاج أن يسأل بعض الأسئلة الفقهية في أمور الحج.
الحج ليس من الأمور السهلة عند عموم الناس، فليس كل واحد يحج كل سنة مرة، قد تتباعد السنوات، وقد يكون أول مرة يحج فيها، فيريد أن يسأل أسئلة، فيريد أن يذهب إلى عالم، فـ سليمان بن عبد الملك أراد أن يسأل فدلوه على عطاء بن أبي رباح رحمه الله وهو من التابعين وكان عبداً وأعتق، كان عبداً أسود وفي عينه مرض، يقال: إنه كان لا يرى إلا بعين واحدة وكان يعرج وأسود، كل الآفات أو العاهات التي ممكن تعجز الإنسان عن الحركة في حياته، وتهبط من معنوياته، لكنه مع كل هذا كان عالماً من أعظم علماء المسلمين، فاحتاج له سليمان بن عبد الملك وولداه فذهبوا من أجل أن يسألوه، ووقفوا خلفه وهو يصلي فلما أتم صلاته سألوه فما التفت إليهم، انظروا إلى عزة العالم، وقف يصلي في مكانه بجوار الكعبة، وهم واقفون وراءه، فلما أتم صلاته سألوه فرد عليهم ولم يلتفت إليهم، ليست له إليهم حاجة، لم يرد مالاً ولم يرد وضعاً اجتماعياً، ولم يرد منصباً معيناً يأخذه، ولم يرد قضاء ولم يرد أي شيء، إنما يريد العلم لله عز وجل فرفعه الله به، فظل سليمان وولداه واقفين يسألونه في منتهى الذلة لعلمه، وبعد ما أكملوا أسئلتهم قال سليمان بن عبد الملك لولديه الاثنين: يا أولادي لا تنيا في طلب العلم.
أي: لا تكسلا في طلب العلم، قال: لا تنيا في طلب العلم؛ فإني والله ما أنسى أبداً ذلنا بين يدي العبد الأسود.
يعني: نحن المحتاجين لما عنده من العلم وهو ليس محتاجاً لنا، لن يعدم قوتاً، ولن يحرم أبداً من رزق، فهذا أمر مكفول، أما العلم فقد يحرم منه كثير وكثير، إذاً: الرزق مكفول لك، أما العلم فلا بد أن تسعى لتحصيله.
وهذا هارون الرشيد كان له ولدان وهما الأمين والمأمون فأتى لهما بعالم من علماء الأمة ليعلمهما وهو الكسائي رحمه الله، فكان الكسائي إذا وصل إلى الباب تسابق كل منهما من أجل أن يفتح للكسائي، يتسابق الغلامان الأمين والمأمون وهما أولياء عهد للأمة، لحمل نعلي العالم الكسائي رحمه الله، فـ هارون الرشيد عندما سمع هذا الكلام دعا الكسائي وقال له: يا كسائي! قال: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: من أعز الناس؟ قال: أمير المؤمنين، فقال هارون الرشيد: بل أعز الناس من إذا أتى الباب تسابق أولياء العهد على فتحه له، هذا أعز من أمير المؤمنين، وأعلى درجة من أمير المؤمنين.
هذه قيمة العلم الحقيقية، وهذه هي الدرجة التي وضع فيها الصالحون علماء الأمة، وهذا ما نريد أن نصل إليه إن شاء الله رب العالمين.
إذاً: أول شيء أن أعرف أن ما أبحث عنه غال جداً، حتى أضحي من أجله، أما لو كان هذا الشيء هامشياً في حياتي فإني لا أفرغ له وقتاً، قد تقول: هناك أمور كثيرة تشغلنا، ولم نحصل على وقت نذاكر فيه، وقد تقول: الظروف منعتني وغير ذلك من الأمور.