للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حكم من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم]

قد نُقل الإجماع عن أهل العلم: أن من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو استخف به، أو استهزأ به، فهو كافر ظاهراً وباطناً.

فمن تعدى على النبي صلى الله عليه وسلم، أو تعدى على أمهات المؤمنين، كأن يتكلم في عائشة رضي الله عنها وأرضاها ويغمزها كما يحدث من بعض الفسقة الفجرة الكفرة الذين يرمون عائشة رضي الله عنها وأرضاها بالزنا، فهذا المقصود منه حقيقةً هو: الطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كمن يسب النبي صلى الله عليه وسلم صراحةً، أو يشير إلى ذلك ويلمح، فكل ذلك كفر يخرج من الملة، ولا يحتاج فيه إلى إقامة الحجة في هذا؛ لأنه أمر معلوم من الدين بالضرورة، وهذا الأمر ليس فيه ثمت تفريق بين النوع والعين، وإن كان الأصل الأصيل عند أهل السنة والجماعة هو التفريق بين النوع والعين، لكن السب والاستهزاء والاستخفاف بعرض النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه إقامة حجة ولا إزالة شبهة، بل الحكم أنه كافر كفراً يخرجه من الملة، ولو مات على ذلك فهو خالد مخلد في نار جهنم.

والدليل على ذلك: قول الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:٦٥]، فهؤلاء ما استهزئوا بالنبي صلى الله عليه وسلم صراحةً، وإنما قالوا: ما نرى أصحابنا إلا أرغب بطوناً وأجبن عند اللقاء.

فقالوا هذه الكلمات اليسيرة في نظرهم، ثم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعتذرون ويقولون: إنهم ما قصدوا ذلك، فهذه الآية تبين أن من سب الدين أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو سب عرض النبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر قطعاً بدون إقامة حجة أو إزالة شبهة؛ لأن الله جل وعلا بين لنا هذا الحكم بقوله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:٦٥] فبعدما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم (إنما هو حديث الركب، رد النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ عليهم: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:٦٥] ((لا تَعْتَذِرُوا)) [التوبة:٦٦]).

فهذه المسألة ليس فيها إقامة حجة ولا إزالة شبهة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل منهم ولم يقل لهم: هل فعلتم ذلك وأنتم غير متدبرين هذا القول؟ هل ذهبت منكم عقولكم؟ هل تكلمتم هذا الكلام عبثاً؟ لم يفعل النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من هذا، بل تلا عليهم قوله تعالى: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:٦٦] أي: كفرهم بعدما أثبت لهم الإيمان.

وهذا نص قاطع من قول الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:٦٥ - ٦٦]، وهذه آية واضحة جلية على: أنه لا يشترط في مثل هذا إقامة حجة ولا إزالة شبهة ولا تفريق بين نوع ولا عين في هذه المسألة.

وسب الرسول صلى الله عليه وسلم يعتبر قبل نقل الإجماع عين المحادة لله؛ لأن من سب الرسول فقد سب المرسل وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} [المجادلة:٢٠]، ولا يكون أحد في الأذلين، أو في الدرك الأسفل من النار إلا الكفرة الفجرة، الذين لا سبيل لهم إلا الخلود في نار جهنم نعوذ بالله من الخذلان.

وأيضاً إن الله جل في علاه يحارب من شاقه أو شاق رسوله صلى الله عليه وسلم.

والحكم بكفر من سب الرسول صلى الله عليه وسلم أمر قطعي لا شك فيه، فإن قال قائل: إن بعض الناس قد تعودوا على ذلك بسبب سوء التربية فلا يعمهم الحكم، قلنا: إن هذا هو الإرجاء المحض، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، فمن قال: بأن هذا يحتاج لاستحلال القلب فقد زل زلة منكرة، وهفا هفوة عظيمة جسيمة، فسب الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقال فيه: إنه سوء أدب، بل يقال فيه إنه كفر، لأنه كما قلنا يعتبر سباً للذي بعث الرسول، وهو الله سبحانه جل في علاه.

إذاً: فهذه زلة منكرة لمن يقول: بأن سب الرسول سوء أدب، أو سب الدين هذا سوء أدب، أو سب الله جل في علاه سوء أدب، لا والله بل هو كفر بنص كلام الله جل في علاه، وأيضاً هو كفر بالإجماع، والإجماع حجة، والدليل على أن الإجماع حجة: قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:١١٥]، فقوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} [النساء:١١٥]، هذا وجه الدلالة على قوله: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:١١٥]، وهذا وجه الشاهد، يعني: أن مشاققة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين تعتبر من المشاققة للرسول صلى الله عليه وسلم.

وهذه الآية احتج بها الشافعي عندما جاءه رجل وقال له: أتحتج بالإجماع؟ قال: نعم، قال: ائتني بآية من كتاب الله، فدخل داره ثلاثة أيام يقرأ كتاب الله، وعاود القراءة أكثر من مرة حتى أتى بهذه الآية.

إذاً: أجمعت الأمة على كفر من يسب الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد نقل الإجماع: إسحاق بن راهويه والخطابي والقاضي عياض وغيرهم كثير، فقد نقلوا الإجماع على أن من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كفر وخرج من الملة ويستحق القتل.

بل اختلف الفقهاء فيما بينهم؛ هل إذا تاب يسقط عنه حد القتل أم لا؟

<<  <  ج: ص:  >  >>