[أقوال العلماء في حكم من سب الله ورسوله]
أدلة الأقوال الثلاثة: دليل القول الأول الذين قالوا بأن من سب الله وسب رسوله هو كافر ويجب قتله دون الاستتابة، وهؤلاء لهم حظ من الأثر والنظر.
أما من الأثر: فقد قالوا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، والفاء للتعقيب، وليس ثمة مهلة ولا تراخ، وهذا في الردة فما بالكم بأغلظها وهو التجرؤ على الذات الإلهية المقدسة فوجب القتل دون الاستتابة.
دليل القول الثاني وهم الشافعية والأحناف ورواية عن أحمد الذين قالوا: تقبل التوبة ويعامل معاملة المرتد، قالوا: (من بدل دينه فاقتلوه)، الفاء للتعقيب، لكن الصحابة الذين هم أعلم الناس برواية النبي صلى الله عليه وسلم وبمراده قد طبقوا الاستتابة في المرتدين، فإن عمر بن الخطاب عندما أرسلوا له في رجل قد ارتد فقتلوه دون استتابة قال: (اللهم إني لم أشهد ولم أرض).
دليل القول الأول من النظر: قالوا: غِلَظُ هذه الردة في سب الذات الإلهية، أو سب عرض النبي صلى الله عليه وسلم يجرئ السفلة الرعاع على الله وانتهاك حرمته وانتهاك حرمة النبي صلى الله عليه وسلم، والواجب أن نمنع الألسنة من التجرؤ على الله أو على الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا القول له قوة وحظ من النظر.
ودليل القول الثاني من النظر أنهم نظروا إلى مقاصد الشريعة وقالوا: الشرع ينظر إلى العتق وينظر إلى الحرية، ويأمر بعتق الرقبة، فهل هناك أعظم رقّاً من الكفر؟! والله جل في علاه أرحم بالعبد من أمه ومن نفسه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيتم هذه المرأة طارحةً ولدها في النار؟ قالوا: لا، قال: لَلَّهُ أرحم بالعبد من هذه الأم بولدها)، فالله أرحم بالعباد من أنفسهم وأمهاتهم فهو القائل سبحانه: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:١٥٦]، (والله جل في علاه أفرح بتوبة العبد من فرح العبد عندما رجعت إليه دابته وعليها طعامه وشرابه)، كما في الحديث المشهور.
إذاً: من مقاصد الشريعة، أن الشرع يفتح الأبواب لكل كافر أن يدخل في الإسلام، بل ما بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلا رحمة للعالمين، لدعوة الناس أجمعين؛ وليدخلوا في دين الله أفواجاً، فلا بد أن نفتح لهم الباب حتى يتوبوا ويسقط عنهم القتل، وهذا كلام قوي.
دليل القول الثالث: التفصيل عند بعض الشافعية وبعض الحنابلة الذين قالوا: التفريق والتفصيل بين الله وبين رسوله، وهؤلاء لهم أدلة كلها من النظر قالوا: الأصل في حق الله المسامحة، كما جاء في الحديث: (من تاب تاب الله عليه)، وقوله: (وإن تقرب إلي عبدي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة).
فهذا دليل على أن الأصل في حق الله: المسامحة.
وأيضاً التجرؤ على الله لا يقلل من هيبة الله وعظمته في القلوب؛ لأن من يتجرأ على الله جل في علاه يعلم أن الله قد يصيبه بالعمى، أو بالموت، أو بتحقير الناس له.
فإبليس لما أعلن سوء الأدب مع الله تعالى أوجب الله عليه اللعنة، والجميع يعلم أن الله قادر على كل شيء، إذا أراد شيئاً فإنما يقول له: كن فيكون.
أما إبليس فقد قص الله علينا سوء أدبه معه كما قال الله تعالى {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الإسراء:٦١ - ٦٢]، إلى آخر الآيات.
فإبليس يقدح في حكمة الله جل في علاه، فلسان حاله: ليس من الحكمة ولا من العدل أن يسوي الله بين النار والطين، قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:١٢].
ولم يتجرأ كثير من الكافرين على أن ينتقصوا من قدر الله، فهم يشركون بالله اعتقاداً منهم أنها ديانة وليست مسبَّةً ولا انتقاصاً، فالذين يعبدون الأصنام يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:٣]، فهم يعظمون الله ولا يتجرءون على التنقيص من قدر الله ولا الاستهزاء بالذات المقدسة، فقالوا: حرمة الله في القلوب معظمة.
أما بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم فالأصل في حقه أنه حق آدمي، وهذا الحق لا يسقط إلا إذا أسقطه النبي صلى الله عليه وسلم، فإن لم نجد النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا فإنه لا يسقط، والدلالة على ذلك ما جاء في الصحيح: (أن رجلاً غائر العينين دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! اعدل فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، فقام خالد بن الوليد وقال: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق)، فهذا الرجل قدح في عدالة النبي صلى الله عليه وسلم، وارتدَّ بذلك، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط حقه؛ لأن له أن يسقط حقه وهو موجود، لكن لما كان النبي صلى الله عليه وسلم غير موجود بين أظهرنا لم يسقط حقه، فاستحق منتقصه القتل.
إذاً: الأصل في حق الله جل في علاه المسامحة، وأن من تاب تاب الله عليه، وأن من أتى بقراب الأرض خطايا ثم استغفره سبحانه غفر الله له.
فهذا التفريق تفريق بديع، وأنا أميل إلى القول الثاني، لولا أن القول الثالث وقوته في حفظ جناب النبي صلى الله عليه وسلم قد ألجأني إلى أن أقول: إن الراجح في هذه الأقوال هو القول الثالث الذي فيه التفريق بين من سب الله وسب رسول الله، فمن سب الله فتاب تاب الله عليه ويسقط عنه القتل، وأما من سب رسول الله فإننا نستتيبه وندعوه إلى التوبة، فإن تاب قتلناه حداً لا ردة، حفظاً لجناب النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولأنه ليس بين أظهرنا حتى يسقط حقه، وأن الأصل في حق الله جل في علاه المسامحة، ولن تصيب الله معرة من سب أحد من الرعاع السفلة، والتجرؤ على ذاته المقدسة.