للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الواجب على المسلمين تجاه الصحابة]

هؤلاء هم الأخيار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين نذروا أرواحهم للنبي صلى الله عليه وسلم رخيصة وفداءً لهذا الدين، فإذا كانت هذه المكانة العظمى لهؤلاء الأخيار التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم وبينها الله جل في علاه، فإن واجبنا نحو هذه الطائفة المنصورة، التي نصرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلي: أولاً: حبهم، فإن حبهم دين ندين الله به، قال الله تعالى حاكياً عن الذين جاءوا من التابعين بعد الصحابة: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:١٠].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس الصحيح: (حب الأنصار إيمان وبغض الأنصار نفاق) وإذا كان هذا في حق الأنصار فمن باب أولى أن يكون في حق المهاجرين، فالمهاجرون أفضل من الأنصار، والأنصار حافظوا على رسول الله، ودافعوا عنه بأموالهم وأنفسهم ونسائهم وأولادهم، وهم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما جاءهم وحيداً فريداً.

والمهاجرون جمعوا بين الهجرة والنصرة، فقد نصروا الله ورسوله بنص الكتاب، وما هاجروا وتركوا الأموال والأنفس إلا نصرة لله، قال تعالى: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} [المائدة:٢]، فهذا فضل المهاجرين على الأنصار.

وإذا كان حب الأنصار إيمان وبغضهم نفاق فمن باب أولى أن يكون حب المهاجرين إيمان وبغضهم نفاق، وقد قال علي بن أبي طالب: (قد عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق) فحب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم دين ندين الله به.

ولذلك كان الرعيل الأول من السلف في القرون الخيرية كـ ابن المبارك ومالك وغيرهما يقولون: علموا أولادكم حب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد قال الإمام مالك وغيره: من الدين أن تعلم أولادك حب أبي بكر وحب عمر رضي الله عنهما وأرضاهما.

فالواجب على هذه الأمة أن تحب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل قلبها لأمور كثيرة.

أولاً: لو لم يكن إلا لحفظ عرض النبي صلى الله عليه وسلم لكفانا حبهم لأجل ذلك.

ثانياً: لو لم يكن إلا أنهم قد بلغوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كل حركة وكل سكون، وكل قول وفعل، ووصل إلينا الدين عفناً طرياً على أكتافهم، لكفى ذلك في حبهم، فالمؤمن الحق هو الذي يرى في قلبه امتلاء بحب هؤلاء الأخيار.

ومن واجب الأمة أيضاً نحو هؤلاء الأخيار: الترحم عليهم، والترضي عنهم، ولا يقال: علي بن أبي طالب صلى الله عليه وسلم، أو اللهم صل على أبي بكر.

والصحيح: الترضي على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:١٠] فلابد من الترضي على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهنالك أمر عظيم بين الإخوة وهو أنه عندما يذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يسمع منهم الصلاة والسلام عليه، وهذا بخل ليس بعده بخل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من البخيل؟ البخيل: من ذكرت عنده ولم يصل علي).

وهذا العدم وجود الاحترام العالي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولصحابته الكرام فعندما يذكر أبو بكر أو عثمان لم تسمع عبارة رضي الله عنه وأرضاه، فهذا من الأدب مع هؤلاء، وهو حق هؤلاء علينا، الترضي والترحم والاستغفار كثيراً لهم.

الثالثة -وهي المهمة جداً-: الكف عن الكلام في الفتن والمساوئ التي وقعت بينهم، فهذا أدب جم لا بد أن يتحلى به كل مؤمن، فلا نتكلم في هذه الفتن كثيراً؛ فإن المسلم يُعرف بأدبه الجم مع صحابة رسول الله، وبالكف عن الكلام على مساوئ هؤلاء الأخيار، كما قال ابن كثير: هذا القتال الذي حدث بينهم قتال عصم الله سيوفنا منه، فلنعصم أو نحفظ ألسنتنا من الكلام فيه.

فلا بد أن نكف عن الكلام عن مساوئ هؤلاء الأخيار، وأن نمر عليها مرور الكرام، حتى نحق الحق ونبين أن الذي وقع بينهم وقع عن اجتهاد؛ وليس عن هوى، أو طلب دنيا، أو خلافة، أو رئاسة.

فهذا الكلام نضعه في عين من يتكلم بهذا وفي قلبه عله يرجع إلى حب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يقع بلسان بذيء في أعراض هؤلاء الأخيار.

إن الفتنة حدثت ونجمت وظهرت بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال أنس: ما وارى جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب فنفضنا التراب عن أيدينا إلا وتغيرت قلوبنا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يأتي زمان إلا والذي بعده أشر منه).

وقال أبو هريرة كما في الصحيح: مات رسول الله يوم مات وارتد من ارتد من العرب، وما بقي على الإيمان إلا بقايا من أهل الحجاز والمدينة ومكة، ونجمت فتنة الردة وادعاء النبوة، فأخمدها الله جل في علاه بـ أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه ونصر الله به الدين، ثم استقرت أركان الدولة، واستقر عرش الدولة على الدنيا بأسرها في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.

وقد قال عمر لأصحابه -وهو الملهم المحدث-: أيكم سمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن الفتن.

فقال حذيفة: أنا يا أمير المؤمنين! فتنة الرجل في أهله وماله وولده تكفرها الصدقة والصوم والصلاة.

قال: ليس عن هذا أسأل، قال: تسأل عن الفتن التي تموج كموج البحر؟ قال: نعم، قال: مالك ولها يا أمير المؤمنين! بينك وبينها باب، قال: أيفتح أم يكسر؟ قال: يكسر، قال: إذاً لا يقوم مرة ثانية، وكسر الباب هو: قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فادلهمت الخطوب، ونزلت البلايا والفتن على الأمة، فلم تنقطع إلى يومنا هذا.

فـ عثمان رضي الله عنه وأرضاه تكالب عليه بعض العلوج من أهل مصر، والأوغاد والأعراب من أهل العراق والكوفة، وهجموا عليه فقتلوه مظلوماً أبياً خليفةً، وكان قد بين له النبي صلى الله عليه وسلم نبوءة، كما في مسند أحمد: أنهم سيطلبون منه أن ينزل عن شيء ألبسه الله إياه، فلا ينزل عن هذا الأمر، وهو الخلافة، فطلبوا منه أن ينزع يده من الخلافة فأبى عليهم فقتلوه مظلوماً رضي الله عنه وأرضاه.

وبعد ذلك لم تقف الفتن في هذه الأمة، فجاء علي بن أبي طالب وهو يستحق الخلافة بالإجماع، وما من أحد يداني مكانة علي بن أبي طالب فكل الصحابة في عصره كـ عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام و > عمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان كل هؤلاء يقولون: أفضل الموجودين هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، فلما اتفقت كلمتهم على أفضلية علي على كل الموجودين، لم تستقر الخلافة لـ علي؛ لأن الفتنة نجمت بالاجتهاد، فكل قد اجتهد فمن أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر.

أما طلحة والزبير فبايعا علياً بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، ثم استأذنا علياً بالذهاب إلى مكة فلما ذهبا إلى مكة، وسمعت عائشة رضي الله عنها وأرضاها بمقتل عثمان أرادت الثأر لدم عثمان، فلم تنظر للخلافة ولا للاستقرار ولا لمقاصد الشريعة في أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.

فإعدام وقتل الذين قتلوا عثمان فيه مصلحة، والشر المستطير الذي سيحدث للأمة بعد قتل قتلة الخليفة مفسدة، ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح، لكن عائشة رضي الله عنها وأرضاها اجتهدت اجتهاداً وقد أخطأت فيه وهي زوجة نبينا في الدنيا وفي الآخرة، ورأت طلحة بن عبيد الله والزبير فقالت لهما: إن الثأر لـ عثمان لا بد أن يقدم.

فخرجوا إلى البصرة وكان علي بن أبي طالب في المدينة، وبعث إلى عثمان بن حنيف في هذه المسألة، وبعث إليهما وسألهما: ما الذي أتى بكما؟ فقالوا: للثأر لـ عثمان فعلم علي بن أبي طالب بذلك، فجاء بجيشه إلى البصرة، وحدث الكلام بين جيش علي بن أبي طالب وبين جيش طلحة وعائشة والزبير، فقد بعث كل منهما أفراداً من القوم، وتكلموا في هذه المسألة ثم اصطلحوا وباتوا على خير ليلة، وعلموا أن المصالح تقدم على المفاسد واتفقوا جميعاً، لكن الذين قتلوا عثمان كانوا في جيش علي وهو يعرف أنهم على خفاء في جيشه ولهم قبائل وقوة ومنعة وشوكة فقالوا: قد اتفق القوم علينا، وما من أحد قاتل إلا نحن، فقاموا بالليل فناوشوا جيش الزبير رضي الله عنه وأرضاه فقتلوا منهم، فقام جيش الزبير وطلحة فحسبوا أن جيش علي قد غدر بالاتفاق، ثم هجم جيش الزبير على جيش علي، وحدثت المناوشة بينهما، فحسب جيش علي أن جيش الزبير قد غدر بهم، فحمي الوطيس واشتدت بساط الحرب، وقد قضى الله أمراً كان مفعولاً، ولله في ذلك حكم.

لكن بعد أن وقعت المقتلة العظيمة، وكان أشدها وأوجها حول ج

<<  <  ج: ص:  >  >>