[عقيدة السلف أصحاب الحديث في عواقب العباد]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ويعتقد ويشهد أصحاب الحديث أن عواقب العباد مبهمة، لا يدري أحد بما يختم له، ولا يحكمون لواحد بعينه أنه من أهل الجنة، ولا يحكمون على أحد بعينه أنه من أهل النار؛ لأن ذلك مغيب عنهم، لا يعرفون على ما يموت عليه الإنسان، ولذلك يقولون: إنا مؤمنون إن شاء الله، أي: من المؤمنين الذين يختم لهم بخير إن شاء الله.
ويشهدون لمن مات على الإسلام أن عاقبته الجنة؛ فإن الذين سبق القضاء عليهم من الله يعذبون بالنار مدة لذنوبهم التي اكتسبوها ولم يتوبوا منها، فإنهم يردون أخيراً إلى الجنة ولا يبقى أحد في النار من المسلمين فضلاً من الله ومنة].
هذه المسألة تحتاج إلى شيء من التقعيد والإيضاح، وذلك أنه قد يظهر من كلام المؤلف رحمه الله شيء من عدم الوضوح، فالقاعدة أن أهل السنة أهل الحق بمقتضى ما ورد في الكتاب والسنة، لا يحكمون لواحد بعينه أنه من أهل الجنة، ولا يحكمون على أحد بعينه أنه من أهل النار، وربما يظهر شيء من الالتباس مع القاعدة الثانية وهي قوله: (ويشهدون لمن مات على الإسلام أن عاقبته الجنة)، فقد يقال: كيف نقول: لا يحكم لواحد بعينه أنه من أهل الجنة، ثم نقول: نشهد لمن مات على الإسلام بأن عاقبته الجنة؟ وأقول: إنه فرّق -كما ذكر السلف وهو مقتضى النصوص- بين الشهادة العامة لأصناف الناس وبين الشهادة الخاصة للمعين، فإذا كان القصد الجنس فنحن نشهد، وإذا كان القصد الفرد، فنحن لا نجزم، والمقصود بالجنس بأننا نشهد جزماً بأن مصير الكفار الذين يموتون على الكفر إلى النار، لا نتردد في ذلك؛ لأن ذلك حكم الله الذي لا تبديل له، فإن الله عز وجل حكم على الكفار بأنهم إلى النار، وهذا يشمل الذين ما آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين الخلص والملاحدة والمرتدين، كل هؤلاء لا شك أنهم من أهل النار بلا تردد، ونجزم بأنهم من أهل النار، هذا الكلام عن الجنس وعلى النوع لا على الفرد المعين.
كذلك العكس نقول: إن الأصل في المسلمين أنهم من أهل الجنة، ونشهد بذلك على جنس المسلمين، فمن يموت مسلماً فهو من أهل الجنة قطعاً سواء دخل الجنة لأول وهلة أو كان من أهل الكبائر، إذا لم يَرِدِ الله له المغفرة وعذب بالنار فإنه يدخل بعد ذلك الجنة.
هذه القاعدة نجزم بها؛ لأن المقصود بها جنس الكفار والمقصود بها جنس المسلمين أو عموم الكفار وعموم المسلمين أو نوع الكفار ونوع المسلمين.
فإذاً: هذا فيما يتعلق بالشهادة العامة، أما القاعدة الثانية فهي تتعلق بالفرد بالمعين، فالإنسان إن مات مسلماً نرجو له الجنة وندعو له بذلك، لكن لا نجزم قطعاً إلا لمن ورد النص بحقه سواء كان نوعاً أو فرداً، فمثلاً: نجزم بأن الأنبياء كلهم من ذكروا ومن لم يذكروا لنا من أهل الجنة، وكذلك من ورد ذكرهم في القرآن والسنة بأسمائهم أو أوصافهم نجزم بأنهم من أهل الجنة؛ لأنه ورد ذلك في الكتاب، أما المسلم المعين إذا لم يرد نص في حقه فنحن نرجو له ولا نجزم يقيناً بحيث نعتقد ذلك اعتقاداً نقسم عليه؛ لأن هذا أمر غيبي لا نعلمه؛ ولأننا لا نعلم بما ختم له؛ ولأن الأمور راجعة إلى حكم الله وقضائه، فالله عز وجل لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ولا أحد يتألى عليه ولا أحد يتعالى عليه سبحانه، فلا ندري بما ختم الله لهذا الإنسان بعينه، لكننا نرجو له، فتبقى الشهادة هنا بمعنى العموم.
وكذلك الكافر، نحن نجزم بأن جنس الكفار إذا ماتوا كفاراً فإنهم من أهل النار قطعاً، لكن الكافر بعينه فلان بن فلان إذا مات على الكفر فنحن يظهر لنا أنه كافر، ونحكم حكماً عاماً لكن لا نجزم بأن هذا الشخص بعينه من أهل النار قطعاً؛ لأن هذا تأل على الله، ولأن مصائر العباد بيد الله عز وجل، ولا ندري بما ختم له، لا ندري فربما ختم له بالإسلام بخاتمة السعادة، وربما أسلم في آخر لحظة فيما بينه وبين ربه قبل الغرغرة، وربما أحدث توبة ولم نعلم بها ففاجأه الموت، فعلى هذا يبقى الاحتمال وارداً ولو واحد بالمليون، وما دام الاحتمال موجوداً فلا نجزم، ثم إن الجزم هو تأل على الله عز وجل، والله عز وجل نهانا أن نتألى عليه.
إذاً: أعود فأقول: إن قول السلف بأنا لا نحكم على واحد بعينه، يعني: الفرد بعينه فلان بن فلان إذا مات على الإسلام لا نجزم بأنه من أهل الجنة قطعاً، لكن نرجو له وإذا مات على الكفر لا نجزم بأنه من أهل النار قطعاً لكن نخشى عليه، أما جنس المسلمين فلاشك إن شاء الله أن مصيرهم إلى الجنة، وأما جنس الكفار الخلص فلاشك أن مصيرهم إلى النار.
وإذا سُمع إنسان ينطق بالشهادة عند الموت فهذه تعتبر علامة من علامات السعادة؛ ولا يجزم بها، لأن مسألة النفاق واردة إلى آخر لحظة، والله عز وجل قد يحول بين المرء وقلبه، فقد يشهد بلسانه وقلبه في وادٍ آخر، والله أعلم بحال العباد، فما دام وجد الاحتمال سقط الاستدلال.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومن مات والعياذ بالله على الكفر فم