[مذهب السلف أصحاب الحديث في أهل الأهواء والبدع وتحذيرهم منهم ومن بدعهم]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الشافعي رحمه الله: لأن يلقى الله العبدُ بكل ذنب ما خلا الشرك أحب إلي من يلقاه بشيء من الأهواء].
وهذا أيضاً قاسم أو مفهوم عام عند السلف؛ فإنهم يعتقدون أن المعاصي أسهل من البدع، وذلك لأمور: أولاً: لأن البدع غالباً تكون من مرض القلوب المرض المزمن؛ لأن الشهوات مرض عارض، أما الشبهات والأهواء فهي مرض متأصل؛ لأن الشهوة يندفع إليها الإنسان برغبة عارضة، أما الشبهة والبدعة فهي مرض القلوب، ولأنها -أي: البدعة- انحراف عن الحق بالعمد، ولذلك كان السلف لا يسمون العالم المجتهد إذا وقع في بدعة مبتدعاً، وإنما يسمون فعله زلة؛ نظراً لأنه لا يتعمد، فالعالم الذي له قدر في الدين وجلالة ورسوخ في العلم مثل الإمام أبي حنيفة ومثل قتادة بن دعامة السدسي ومثل الحاكم النسيابوري ومثل عبد الرزاق ومثل ابن أبي رواد ونحو هؤلاء الذين نسبت إليهم بدع وقالوا ببدع فعلاً العلماء سموها زلات، وقالوا: رمي أحياناً ببدعة، أو رمي بالقدر أو نحو ذلك؛ لأنهم يعرفون أن هؤلاء الأئمة ما كان قصدهم الهوى.
إذاً: فالأهواء أعظم من الذنوب؛ لأن صاحبها في الغالب لا يقع فيها إلا عن عمد أو تقليد بتقصير؛ لأنه قد يكون المبتدع عامياً، لكنه قصر، فبسبب جهله وإعراضه عن دين الله عز وجل وإعراضه عن منهج السلف قلد غيره، والتقليد مذموم في حد ذاته، حتى في الأحكام، إنما الممدوح الاتباع.
ثانياً: أن صاحب الهوى في الغالب يظن أنه على حق، ومن هنا يقل أن يتوب، وأما أصحاب الشهوات والفجور والمعاصي فيعرفون أنهم مخالفون، ولذلك تؤنبهم ضمائرهم، ولهم أمل أن يتوبوا، لكن صاحب البدعة حتى لو حدثت عليه الكوارث يصر على بدعته، ولذلك نجد أن الكوارث والمصائب تتسبب -بإذن الله- في توبة العصاة، بينما الكوارث والمصائب تتسبب في تمادي أهل البدع في بدعهم، ولذلك قال بعض السلف: قلّ أن يتوب صاحب بدعة من بدعته.
لا يقصد أن الله لا يتوب عليه، بل يقصد أنه قل أن يوفق للتوبة؛ لأنه مصر على الهوى، ومصر على البدعة، فيبتليه الله عز وجل ويحجب عنه الحق، فتكون من باب العقوبة العاجلة على أصحاب الهوى.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وسأل رجل عمر بن عبد العزيز عن شيء من الأهواء، فقال: الزم دين الصبي في الكتاب، والأعرابي، واله عما سوى ذلك].
هذه أيضاً قاعدة عظيمة يجب أن نستفيد منها وأن نجعلها منهجاً في تعليمنا الدين، وفي تقويمنا للناس وفي رعايتنا لمن حولنا من الأطفال والكبار والصغار والعوام، وهي أن الفطرة التي عليها الأطفال والعوام خير للناس ولأصحابها بكثير من الأهواء مهما كانت مبررة ومقننة، ومهما كانت تحمل شعار العلم؛ وذلك لأن دين الصبي في الكتاب والأعرابي يتميز أولاً بأنه على الفطرة والبراءة الأصلية، ومن كان على الفطرة والبراءة الأصلية فالله عز وجل يتولاه ويعذره بجهله ولا يقع في الأمور الكبار في الغالب؛ لأنه على الفطرة والبراءة الأصلية، فهذا أقرب وأحرى بأن يوفق ويسدد ويعان، ويعصمه الله عز وجل باعتصامه بالفطرة والبراءة الأصلية.
هذا أمر.
والأمر الثاني: أن دين الصبي ودين الأعرابي بعيد عن التكلف وعن الخوض فيما لا يعنيه، ويقصد بذلك العوام أيضاً، فدين الصبي والأعرابي هو ما عليه عموم المسلمين عموم العوام، سواء كانوا عامة أو كانوا صبياناً أو كانوا أعراباً أو نحو ذلك، فهذه الفئات من الناس على السلامة الأصلية؛ لأنهم بعيدون عن الجدال في الدين، وعن التكلف وعن الخوض فيما لا علم لهم به، بل يتورعون عن ذلك، ولذلك نجد -وهذا تأملته كثيراً وأرجو أن تتأملوه معي- أن أكثر العوام الآن أكثر تورعاً من بعض طلاب العلم في الوقوع في المشتبهات الفكرية والعقدية وغيرها، فأكثر العوام عندهم تورع وحساسية فطرية جيدة، وأتمنى لو يبقون عليها، وإن كان قد كثرت الآن المؤثرات والمفسدات للفطرة، لكن مع ذلك لا يزال عموم عوامنا الذين لم يخالطوا أهل الجرب عندهم هذا الحس الصافي؛ والنفور من البدع، كالنفور من المعاصي عندهم، ولذلك يستنكرون بعض المصطلحات وبعض الشعارات والانتماءات والمفاهيم التي سادت بين بعض الشباب، فتجد العوام يستنكرونها، ولا يستوعبونها، وتجد عندهم شيئاً من الحساسية منها، ليس ذلك فقط لجهلهم، وإنما لبقائهم على الفطرة، وهذا معنى قوله: الزم دين الصبي.
كذلك يتميز دين الصبي والأعرابي والعامي في الغالب بالتسليم، فتجد رغم أنه قد يرتكب بعض الأشياء، وقد يتكلم أحياناً بكلام فيه مجازفة، لكن ليس هذا عن تأصيل، بل غالب الصبيان والأعراب والعوام على التسليم لله عز وجل والتسليم للرسول صلى الله عليه وسلم، ويوقرون ويعظمون كل ما يصدر عن الله، ويوقرون ويعظمون كل ما يصدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا يوقرون أهل العلم إذا وثقوا فيهم.
ومن هنا أيضاً أحب أن أنبه على خطأ بعض المجتهدين هداهم الله، الذين يحاولون أن يظهروا نقد العلماء أمام ا