للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[لا يكفر أحد من المسلمين بكل ذنب]

قال رحمه الله تعالى: [ويعتقد أهل السنة أن المؤمن وإن أذنب ذنوباً كثيرة صغائر وكبائر فإنه لا يكفر بها، وإن خرج من الدنيا غير تائب منها ومات على التوحيد والإخلاص فإن أمره إلى الله عز وجل، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة يوم القيامة سالماً غانماً، غير مبتلى بالنار ولا معاقب على ما ارتكبه واكتسبه، ثم استصحبه إلى يوم القيامة من الآثام والأوزار، وإن شاء عاقبه وعذبه مدة بعذاب النار، وإذا عذبه لم يخلده فيها، بل أعتقه وأخرجه منها إلى نعيم دار القرار].

وعلى هذا تكون عموم الذنوب ثلاثة أصناف: الصنف الأول: الشرك بالله عز وجل، يعني: الشرك الخالص شرك العبادة، فهذا لا يغفره الله عز وجل، وصاحبه مخلّد في النار، نسأل الله العافية، ويدخل فيه الشرك بالله؛ لأن بعض الناس يفهم من الشرك فقط عبادة الأصنام أو عبادة الأوثان أو دعاء غير الله عز وجل، نعم هذه أبرز مظاهر الشرك بالله الشرك العظيم، لكن من الشرك العظيم: الإلحاد بدين الله عز وجل، ومن الشرك: عدم طاعة الرسل، ومن الشرك: النفاق الخالص فالنفاق الخالص شرك أيضاً وصاحبه مخلد في النار، نسأل الله العافية.

إذاً: فالمنافقون الخلّص والملاحدة وعُبّاد الأصنام ومن سلك سبيلهم ومن كان على نحوهم كل هؤلاء يعدون من المشركين، وكذلك يدخل غيرهم ممن دخل في الشرك وإن انتسب لغير المشركين، فمثلاً: اليهود الآن مشركون، لأنهم قالوا: عزير ابن الله، وعبدوا مع الله غيره، والنصارى مشركون؛ لأنهم زعموا أن الله ثالث ثلاثة، وزعموا بأن عيسى ابن الله! تعالى الله عما يزعمون ونحو ذلك، فأعطوا البشر خصائص الإلهية فهم مشركون، حتى لو زعموا أنهم يعبدون الله ولا يعبدون غيره.

والشرك يكون في الاعتقاد والعمل، ويكون في العمل فقط، ويكون بالاعتقاد فقط، والتمييز بين الاعتقاد والعمل ليس عندنا عليه أدلة قاطعة؛ لأن الإنسان إذا ظهر منه شيء يحكم بشركه ما لم يأت عارض آخر.

فالشاهد: أن الصنف الأول من الأعمال هو الشرك، سواء من المشركين الخلّص أو ممن وقع في الشرك ولو ادعى الإسلام، فمن وقع في الشرك الخالص فعمله يخرجه من الملة ويكون من أهل النار المخلّدين.

الصنف الثاني: الكبائر، والمقصود بها هنا الكبائر التي تحدث من المسلم، وإلا فكبائر المشركين وكبائر الكفار لا تعادل شيئاً أمام كفرهم الأصلي، فنحن نتحدث عن الكبائر من المسلمين، فالكبائر من المسلم إذا حدثت هذه حكمها أولاً: أنه إذا تاب منها في الدنيا تاب الله عز وجل عليه، والأصل عندنا أنه تاب، فإذا تاب المسلم من الكبيرة تاب الله عليه، وأصبح كمن لا ذنب له، بل من فضل الله وكرمه ومنّه أن الله يبدّل سيئاته حسنات، وإذا لم يتب وكان مصراً على كبيرته فيبقى التفصيل في أحواله في الآخرة، فإنه مات فاسقاً وعاصياً لكنه مسلم، فيوم القيامة ورد في النصوص أن أهل الكبائر على نوعين: منهم من يغفر الله له فيدخل الجنة بفضل الله ورحمته ومنِّه، ومنهم من يستوجب النار بكبيرته، لكنه لا يخلّد فيها، فيخرج منها بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وبشفاعات أخرى وبرحمة الله عز وجل وفضله، وليس هناك قسيم ثالث في مسألة أهل الكبائر، فمنهم من يغفر الله له، ومنهم من يُعذّب، ومن يُعذّب لا يخلد في النار.

الصنف الثالث من الذنوب: الصغائر، فالصغائر تكفّرها الأعمال الصالحة، ويكفّرها الاستغفار، والصدقات، وتكفّرها أعمال البر، وتكفرها التوبة المطلقة، وإن لم تكن توبة معينة، إلا أن الصغائر إذا تكاثرت تصبح كبائر؛ لأن الإكثار من الصغائر مبارزة لله عز وجل، لذلك قال كثير من السلف: إن الإصرار على الصغيرة كبيرة؛ لأنه مبارزة، فالإصرار كأنه ذنب وزيادة، فهو فيه عناد للشرع، وفيه إعراض عن ذكر الله وأمره، وفيه إعراض عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكثير من أهل العلم وكثير من السلف يعتبر الإصرار على الصغيرة كبيرة، فيدخل في مفهوم الكبائر.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكان شيخنا سهل بن محمد رحمه الله يقول: المؤمن المذنب وإن عُذِّب بالنار فإنه لا يلقى فيها إلقاء الكفار، ولا يبقى فيها بقاء الكفار، ولا يشقى فيها شقاء الكفار.

ومعنى ذلك: أن الكافر يسحب على وجهه إلى النار، ويُلقى فيها منكوساً في السلاسل والأغلال والأنكال الثقال، والمؤمن المذنب إذا ابتلي بالنار فإنه يدخل النار كما يدخل المجرم في الدنيا السجن على الرجل من غير إلقاء وتنكيس.

ومعنى قوله: (لا يلقى في النار إلقاء الكفار) أن الكافر يُحرق بدنه كله، وكلما نضج جلده بُدّل جلداً غيره؛ ليذوق العذاب، كما بينه الله في كتابه في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:٥٦].

وأما المؤمنون فلا تلفح وجوههم النار، ولا تحرق أعضاء السجود منهم، إذ حرم الله على النار أعضاء سجوده.

ومعنى قوله: (لا يبقى في النار بقاء الكفار): أن الكافر يُخلّد فيها و

<<  <  ج: ص:  >  >>