للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[عقيدة السلف أصحاب الحديث في الإيمان]

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومن مذهب أهل الحديث أن الإيمان قول وعمل ومعرفة، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية].

هذه قاعدة عظيمة من قواعد السلف التي خالف فيها المرجئة، وخالفت فيها كثير من الفرق؛ لأن هذه المسألة خالفت فيها المرجئة الأولى مرجئة الفقهاء، وخالفت فيها أيضاً الأشاعرة والماتريدية وكثير من الفرق الكلامية، وتسمى هذه المسألة: مسألة حقيقة الإيمان، أو تعريف الإيمان، أو دخول الأعمال في مسمى الإيمان كل هذه المسميات راجعة إلى معنى واحد وهو: أن الإيمان عند السلف تصديق القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح.

وقوله: (إن الإيمان قول وعمل)، هذا أصل مقولة السلف.

قال: (ومعرفة)، يقصد بالمعرفة التفصيل والعلم.

وقوله: (يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية) أما المقصود بالطاعة فمطلق الطاعة لله عز وجل وليست فقط الطاعة الظاهرة، ويدخل في الطاعة الأعمال القلبية، وهي تسليم القلب وإذعانه لله عز وجل، هذا أعظم معاني الإيمان التي يزيد بها الإيمان، تسليم القلب لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، والمراد الإسلام بمفهومه الشامل، وكذلك التقوى يزيد بها الإيمان، واليقين يزيد به الإيمان، والمحبة لله عز وجل، والخوف والرجاء، والحمد لله والشكر والذكر هذه الأمور إضافة إلى الأعمال التي تدل عليها كلها يزيد بها الإيمان؛ لأن بعض الناس يفهم من معنى الطاعة الطاعة الظاهرة، بينما المقصود بالطاعة أولاً ما يقر في القلب، وما يشتمل عليه القلب من المعاني العظيمة من عبادة الله عز وجل وحبه والتوكل عليه ورجائه إلى آخره، وهي التي ينبثق عنها العمل، فهذه كلها تزيد وتنقص، فالإنسان قد يضعف إيمانه في قلبه، ويظهر ذلك على أعماله.

إذاً: الزيادة والنقصان شاملة للمعاني القلبية وشاملة للأعمال؛ لأن بعض الناس يفهم أن الزيادة والنقصان في الأعمال فقط، بل قد يوجد إنسان قد تكون له ظروف فتكون أعماله الظاهرة مناسبة وجيدة، لكن قد يكون في قلبه ضعف، فهذا ينقص إيمانه فيما بينه وبين ربه وإن لم نعلم ذلك ظاهراً، ولذلك ثبت في النصوص أنه قد يكون من عباد الله الأخيار الذين لا يُعرف لهم أعمال ظاهرة قد يكون في مقامه عند الله عز وجل أعظم ممن نرى صلاحه ونشهد له جميعاً بالصلاح، قد يكون أعظم عند الله عز وجل ولا ندري؛ لأنه قد يكون في قلبه من الإجلال والتعظيم والتقوى والصلاح والاستقامة والاستعانة والرجاء والخوف والتوكل وغيره ما لا نعلمه، وقد يكون عنده من سلامة الصدر وغير ذلك مما هي من أعظم الأعمال ما يجعله من أعظم الناس وأزيدهم إيماناً.

إذاً: زيادة الإيمان ونقصانه مرتبطة بالأمرين: بأعمال القلب، وبأعمال الجوارح، وهذا هو الفارق بين فهم السلف وفهم المرجئة ومن سلك سبيلهم فالمرجئة ومن سلك سبيلهم يجعلون التصديق لا يزيد ولا ينقص، ولا يدخلون الأعمال في مسمى الإيمان، وإن كان بعضهم كمرجئة الفقهاء الأوائل كـ أبي حنيفة رحمه الله وشيخه حمّاد بن أبي سليمان وغيرهم ممن جاء بعدهم وقبلهم يعظّمون الأعمال، بمعنى: أنهم يعظّمون الواجبات ويستشنعون ترك الواجبات وفعل المعاصي، لكنهم مع ذلك أخطئوا في القضية العقدية في مفهوم الإيمان، لكن ومع ذلك فإن المرجئة المتأخرين قصروا في الأعمال واشتهر عنهم التقصير، وهذه نتيجة لازمة؛ لأن السلف حينما ظهر الإرجاء خافوا من هذه النتيجة وحصل ما خافوا منه؛ فإنهم خافوا من أن يؤدي الإرجاء إلى التساهل والإعراض عن دين الله عز وجل، وكانوا يصرّحون بذلك، رغم أن مرجئة الفقهاء لم يظهر منهم التقصير إنما ظهر التقصير من مرجئة الجهمية، لكن ومع ذلك خافوا من الإرجاء كله، ووقع ما خافوا منه، ولذلك أصرّوا على إثبات هذا التعريف الذي سمّوه حقيقة الإيمان وسمّوه تعريف الإيمان، ويدخلون الأعمال في مسمى الإيمان، وهو أن الإيمان قول وعمل، القول يشمل قول اللسان وقول القلب، والعمل يشمل عمل القلب وعمل اللسان، وأحياناً يُعرّف بمعنى من معانيه الثلاثة التي سبقت الإشارة إليها، وهي التصديق والقول والعمل.

والمعرفة هي تصديق القلب، ولذلك عند التفصيل يشار إلى المعرفة، لكن عند الإجمال تكون المعرفة بمعنى التصديق، وإن كانت كلمة (معرفة) يتفاداها السلف، يعني: لا ينبغي لطالب العلم أن يستعملها، لكن نحن نعلم أن الصابوني رحمه الله استعملها بعقل، فنحملها على المحمل الحسن وإلا لا ينبغي التعبير بالمعرفة؛ لأن المعرفة مجرد الكسب العلمي، قد يكون بتصديق وقد يكون بلا تصديق، ولذلك كان من سمات الجهمية التي ذّموا بها أنهم يسمون الإيمان المعرفة فقط، ويسمّون تقبّل الوحي وطلب العلم معرفة فقط، وهذا خطأ شرعاً؛ لأن المعرفة لا تعني التسليم والإذعان، بينما التصديق فيه معنى التسليم والإذعان؛ لأن من صدّق أذعن، وإن لم يلزم ذلك في بعض الجزئيات، لكن في المعنى العام تصديق الله عز وجل وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم يلزم منه التسليم والإذ

<<  <  ج: ص:  >  >>