للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[قصة الجعد بن درهم مع وهب بن منبه]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وروى يونس بن عبد الصمد بن معقل عن أبيه أن الجعد بن درهم قدم على وهب بن منبه يسأله عن صفات الله تعالى، فقال: ويلك يا جعد! بعض المسألة؛ إني لأظنك من الهالكين، يا جعد! لو لم يخبرنا الله في كتابه أن له يداً وعيناً ووجهاً لما قلنا ذلك، فاتق الله! ثم لم يلبث جعد أن قتل وصلب].

وهب بن منبه رحمه الله تفرس في الجعد أنه صاحب هوى، وأن هواه سيلقيه إلى مثل هذه الضلالة، وهذا النص عن وهب نقل كثيراً، وهو كما تعلمون من الآثار المشهورة، وقد قرر فيه عقيدة أو منهج السلف ومنهج المخالفين في وقت واحد، فأما منهج السلف فهو إثبات ما أثبته الله لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم دون تردد ودون تأويل ولا تحريف ولا تمثيل، لذلك قال: (ويلك يا جعد! بعض المسألة؛ إني لأظنك من الهالكين، لو لم يخبرنا الله عز وجل في كتابه أن له يداً وعيناً ووجهاً لما قلنا ذلك)، فهو بهذا يقرر منهجاً من مناهج السلف، وهو إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم يقرر بالعكس منهجاً من مناهج أهل الأهواء وهو عدم اليقين فيما أثبته الله تعالى لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وعدم اليقين يتمثل في هذه الحادثة وفي هذا الأثر أولاً بالسؤال عن صفة الله، فلا يسأل عن صفات الله وهو يعلم أنها غيب وهو يعلم أن الله عز وجل لا تحيط به الأهواء ولا تدركه العقول لا يسأل عنها إلا مشكك أو مبطل أو صاحب هوى أو مريض القلب، وإلا فلمَ يسأل، فلذلك قال له وهب: (ويلك يا جعد! بعض المسألة)، يعني: اقصر عن السؤال، ولا تسأل عن مثل هذا السؤال.

ثم قال: (إني لأظنك من الهالكين)؛ لأنه يعرف أن من مناهج أهل الأهواء إثارة مثل هذه الأسئلة؛ فإن كان تشكيكاً فهو مرض، والمرض إذا لم يوفق صاحبه لعلاجه تمادى به حتى يصبح من الأمراض المستعصية التي تؤدي إلى الهوى، وإذا كان على سبيل التعنت وسبيل الإحراج فهو كذلك هوى، وقد يكون على سبيل التلقي عن الآخرين وهو الغالب، بمعنى: أن الجعد تلقى مثل هذه الإشكالات عن فلاسفة الصابئة وعن فلاسفة اليهود وفلاسفة النصارى وعن الفرق والملل الذين كان يعايشهم، وقد ذكر أهل العلم في سيرته أنه طاف بعض المناطق التي يوجد فيها فلاسفة، ويوجد فيها بعض الفئات من أهل الكتاب الذين عندهم إشهار لهذه البدع فيما بينهم، فعايشهم وخالطهم فوجد عندهم هذا الشك؛ فلذلك سأل هذا السؤال، فتفرس فيه وهب بن منبه أنه من الهالكين، بمعنى: أنه سلك طريق الهالكين، وأخذ عنهم، ولذلك وقع في قلبه البدعة فأثار السؤال من باب الإشهار لهذه البدعة، فربما ما استطاع أن يعطل أو يؤول لكنه سأل، وهذه طريقة أهل البدع في بدايتهم يثيرون الإشكالات والأسئلة التي تقرر مذاهبهم؛ لأنهم لا يجرءون على تقريرها من أول وهلة، ومع ذلك بعد وفاة وهب بن منبه -بل وربما قبلها- ظهرت حقيقة الجعد التي تفرسها أو توسمها وهب حيث أعلن التعطيل، ثم لما أنكر بعض صفات الله عز وجل وبعض أفعاله مثل الخلة والتكليم، لما ظهر ذلك منه تصدى له السلف وناظروه وأقاموا عليه الحجة، وأمروه أن يكف عن إفساد العوام وطلاب العلم، فلم يكف، فناظروه مرة أخرى وثالثة ورابعة؛ ناظروه بالقرآن والسنة والحجة العقلية فلم يرتدع، فرأوا ضرورة قتله؛ لكف فساده عن الأمة، فقتل.

وقصته مع خالد بن عبد الله القسري معروفة كما سيذكر المؤلف رحمه الله بعد قليل.

المهم أن في هذا تقريراً لمنهج السلف في أصل إثبات الصفات، وكشفاً لمنهج المخالفين في الصفات الذي يبدأ بالتشكيك وإثارة الإشكالات والتعطيل والإلحاد في أسماء الله وصفاته.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وخطب خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى بالبصرة فقال في آخر خطبته: انصرفوا إلى منازلكم وضحوا، بارك الله لكم في ضحاياكم؛ فإني مضحٍ اليوم بـ الجعد بن درهم؛ فإنه يقول: لم يتخذ الله إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً سبحانه وتعالى عما يقوله الجعد علواً كبيراً، ونزل عن المنبر فذبحه بيده، وأمر بصلبه].

<<  <  ج: ص:  >  >>