قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإنما قلنا بأنها أعلام وأوصاف لدلالة القرآن عليه كما في قوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[يونس:١٠٧]، وقوله:{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ}[الكهف:٥٨]، فإن الآية الثانية دلت على أن الرحيم هو المتصف بالرحمة، ولإجماع أهل اللغة والعرف أنه لا يقال: عليم إلا لمن له علم ولا سميع إلا لمن له سمع ولا بصير إلا لمن له بصر، وهذا أمر أبين من أن يحتاج إلى دليل].
وعقيدة المعتزلة، وأهل التعطيل الذين عطلوا الصفات أن الله تعالى سميع بلا سمع وبصير بلا بصير وعزيز بلا عزة وهكذا، حيث إنهم فرغوا أسماء الله سبحانه وتعالى من الصفات، كما ذكر ذلك القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني في كتابه شرح الأصول الخمسة، وقال: إنه يحسن إجراء الأسماء على الله تعالى من غير إذنه، وهذا يدل على أنه يرى أنه يصح أن يطلق على الله عز وجل أنه السميع وأنه العزيز وأنه الكريم، لكنه يجرد هذه الأسماء من معانيها، ويقولون -أعني المعتزلة-: إن أسماء الله عز وجل جامدة لا تدل على صفات، فهم يقولون: إنه السميع لكن بدون سمع، وإنه البصير لكن بدون بصر، وإنه الكريم لكن بدون كرم، وإنه العلي لكن بدون علو، وهكذا، فهم يفرغون أسماء الله سبحانه وتعالى من مدلولاتها ومعانيها، ويجعلونها أعلاماً محضة لا تدل على صفة، وعقيدتهم ذكرها القاضي عبد الجبار في كتاب المغني في أبواب العدل والتوحيد، وفي كتاب شرح الأصول الخمسة، وقد نسب الشهرستاني في الملل والنحل هذه العقيدة إلى المعتزلة، وكذلك البغدادي في الفرق بين الفرق.
واحتجوا بشبهة ذكرها الشيخ، وهي قوله: وعللوا ذلك بأن ثبوت الصفات يستلزم تعدد القدماء، وهذه العلة عليلة بل ميتة بدلالة السمع والعقل على بطلانها).
فهم احتجوا بأن إثبات الصفات يستلزم منه تعدد الواحد وتعدد القدماء، يقول أبو الحسين الخياط في كتابه الانتصار على ابن الراوندي: إذا قلنا: إن الله هو السميع وله سمع فلا يخلو هذا السمع من أمرين: إما أن يكون محدثاً أو يكون قديماً، فإذا كان محدثاً فيلزم حدوث الحوادث في ذاته تعالى، وإذا كان قديماً فليزم تعدد القدماء، حيث إن الإله قديم وصفته قديمة.
وهذا مبطل للتوحيد، ونحن نبطله بدليل الكلام، فهم يقولون: إن إثبات الصفات يستلزم منه تعدد الآلهة، ويظنون بقولنا: الله عز وجل له سمع أن هذا إله السمع، وإذا قلنا: إن له بصر، قالوا: هذا الإله الثاني، وإذا قلنا: إن له سبحانه وتعالى يد قالوا: هذا إله ثالث ورابع وهكذا، ولهذا أدخلوا نفي الصفات في مسمى التوحيد، وقالوا: وحدانية الله عز وجل وتوحيده تقتضي نفي الصفات؛ لأنه إذا أثبتنا الصفات فمعنى هذا أننا عددنا الآلهة وجعلناها أكثر من واحد، وهذا لا شك أنه باطل وأنهم ضالين في هذا القول، وهم يرددون أن إثبات الصفات يستلزم إبطال التوحيد، ويقولون: يجب علينا أن نثبت التوحيد لله تعالى، ويظنون أن إثبات التوحيد يستلزم نفي الصفات وردها، وقد شرح ذلك -كما قلت- القاضي عبد الجبار شرحاً مستفيضاً في الأصل الأول من الأصول الخمسة وهو التوحيد، وكلامه باطل، فإن الموصوف في الدنيا يوصف بعدة صفات وهو واحد، أي: الإنسان في الدنيا يوصف بأن له يد وعين، وأنه يسمع ويرى، ويذكر له صفات كثيرة متعددة مع أنه واحد، فلا يتصور أن الإله إذا قلنا: إن له صفات وأن له سمع وبصر وعلم وحكمة وإرادة أنه يلزم من كل صفة من هذه الصفات أن تكون إلهاً مستقلاً، هذا خطأ وضلال وانحراف.
وقد أصابتهم هذه الانحرافات في العقيدة بسبب علاقتهم بالفلاسفة.
والأدلة على بطلان هذه الشبهة أدلة كثيرة من النصوص الشرعية ومن العقل، فأما من النصوص فقد سبق أن بينا أن الله عز وجل أثبت الصفات لنفسه، وهو أعلم بنفسه سبحانه وتعالى ولا يحيطون بعلمه فنسب العلم إليه، ولو كان العلم إلهاً مستقلاً لما نسبه إليه، وكما يقول الله عز وجل:{فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ}[هود:١٤]، ويقول الله عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}[الذاريات:٥٨]، فأعطى نفسه صفة وهي القوة، والقوة غير العلم، وقال تعالى:{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ}[الكهف:٥٨]، والرحمة غير القوة وغير العلم، ولا يلزم من هذا تعدد الآلهة كما يقولون، وإنما هو إله واحد، وأصل شبهتهم هو دليل الحدوث كما سبق أن ذكرنا أنهم استدلوا على وجود الله بدليل حدوث الأجسام، وحاولوا أن يثبتوا بدليل الحدوث وجود الله عز وجل، واستخدموا بذلك طريقة عقلية محددة وهي باطلة، فلما استخدموها التزموا بلوازم، كان من هذه اللوازم أن إثبات الصفة يستلزم تعدد الآلهة، فأخذوا هذه الشبهة من هذا الدليل الذي أرادوا به إثبات وجود الله تعالى.
وكذلك سبق أن بينا أن هذه الشبهة باطلة، والأدلة من القرآن تردها كم