إلى عرق الثرى وشجت عروقي ... وهذا الموت يسلبني شبابي
وهذا هو الأصل لجملته، ثم لكل فرد منه بعد آدم أصل آخر وهو النطفة، قال تعالى:) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ منْ سُلالَةٍ منْ مَاءٍ مَهِينٍ (فإذا استوى الإنسان كله في أنه من طين وأنه في الجملة من ماء مهين لم يمكن أن يكون له فضل في نفسه باعتبار أصله، ولا أن يكون لبعضه فضل على بعض بذلك، لاستواء الجميع، ولهذا نبه صلى الله عليه وسلم على هذا فقال:" إنَّ اللهَ أذْهَبَ عَنْكُمْ غُبِّيَةَ الجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالآبَاءِ، أنْتُمْ بَنُو آدَمَ وآدَمُ منْ تُرَابٍ ". ونبه الله تعالى الإنسان على أصله في آيات كثيرة ليتنبه فيعرف نفسه ويعرف اقتدار مولاه، وقال مولانا علي كرم الله وجهه:" ما لابن آدم والفخر، وأوله نطفة، وآخره جيفة ". وقد يقال: أوله نطفة مذ، وآخره جيفة قذرة، وهو فيما بين ذلك يحمل العذرة، وعقد الشاعر الكلام الأول فقال:
ما بال من أوله نطفة ... وجيفة آخره يفخر
وقال آخر:
عجبت من معجب بصورته ... وأوله نطفة مذره
وفي غد بعد حسن صورته ... يصير في الترب جيفة قذره
وهو على عجبه ونخوته ... ما بين رجليه تخرج العذرة "
نعم يشرف الإنسان بخصوصية تزاد على جسمه الطيني كالعقل والعلم والدين مثلاً فيثبت له الفضل ويثبت لبعضه على بعض، ولما عمي إبليس اللعين على الخصوصية، ولم يرَ إلاّ الطينية السابقة لم يرضَ بآدم ولا بالسجود له، ولم يسلم الأمر لمولاه، فأبى وصرح بأنه خير منه، وعلل ذلك بالمنشأ المذكور، فأخطأ من جهات: منها أنه إما يكون لا شعور له بالخصوصيات أصلاً، وإنما منظره ذوات الأجرام، وهذا جهل عظيم، وإما أن يشعر بها ولا يعرف أنها بها يقع التفاضل، وهذا أيضاً جهل، وإما أن يعرف ذلك ولكن لا يسلم وجودها في آدم فيكون قد بادر إلى إنكار الشيء قبل تحقق انتفائه، بل قبل التأمل، وهو أيضاً جهل وطيش وغفلة عن الإمكانات العقلية وتصرف الفاعل المختار تعالى، وإما أن يكون ذلك محتملاً عنده، فعمل على الانتفاء لا على الثبوت، وهو أيضاً جهل وزلل في الرأي وتضييع للاحتياط، وإهمال لدلالة القرائن المفيدة للعلم، فإنه لو تأمل أدنى تأمل لاستفاد الحق من ترشيحه للخلافة، فإنه لا يخفى عليه قول الله تعالى:) إنّي جَاعِلٌ في الأرْضِ خَليفَةً (، ومن سجود الجمهور، ويد الله مع الجماعة، وإما أن يكون قد علم ذلك ولكن غلبه ما يجد من الحسد والكبر، فاشتغل بالمكابرة والمغالطة، وهذا أيضاً جهل، فإن العلم إذا لم ينفع كالعدم، ومن لا يجري على علمه في حكم الجاهل، هذا مع غاية النقصان بعد التزكية، وعدم ملك زمام النفس، نسأل الله تعالى العصمة، قال الله تعالى:) قَدْ أفلَحَ مَنْ زَكّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسّاها (.
ومنها أنه لم يخلص إلى صحيح العلم وصريح التوحيد فيعلم حق يقين، أو عين يقين، أو علم يقين أن للفاعل سبحانه أن يتصرف في مملكته كيف شاء، فيرفع من شاء، ويضع من شاء ويقدم من شاء ويؤخّر من شاء، ولا سَبب غير العناية الأزلية، وكل شيء بقضاء وقدر) لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْألُون (.
ومنها أن ما اعتمده من فضل جرم النار على جرم الطين لا يسلم له، فإن فضل النار إن كان بمجرد حسنها الصوري فهذه المزية لا تكفي، فإن الأشياء خلقت للانتفاع بها، فما ينبغي أن يكون تفاوتها إلاّ بالمنافع أكثرية وأهمية، والحسن الصوري من المناظر النظرية، وغيره أهم منه، ففي النار منافع كالإحراق والإيقاد والإنضاج والتسخين والتحليل والتعقيد والتعذيب لمن أريد والتذكر ونحو ذلك، وفيها مفاسد كثيرة ومضار هائلة كالإحراق والإتلاف للنفوس والأموال والزرع والتنشيف والتيبيس والإيلام والعذاب الأكبر، وحسبك منها أنها ضرة الجنة وضدها حتى حصل بينهما من التقابل شبه ما بين النفع والضر، والعذاب وإن اشتمل على غير النار لكن النار أعظمه، ولذا صحَّ إطلاقها عليه.