وقد قيل للإمام الجنيد: إن النوري يسأل الناس فقال: دعوه في حاله، ولكن هاتوا الميزان فوزن قدراً من الدراهم، ثم أخذ قبضة من الدراهم بغير وزن فقذفها على الموزون وقال لصاحبه: اذهب بتلك المجموع " إليه " فلما باغ النوري قال: " النوري ": " هات " الميزان، فوزن القدر الموزون ورده وأخذ الباقي، فقال له الحامل: كنت عجبت من فعل الجنيد وأنه كيف خلط الموزون، فأي فائدة للوزن؟ وفعلك هذا أعجب، فما هذا؟ فقال له النوري: إن الجنيد رجل حكيم، وإنه أحب أن يأخذ الحبل بطرفيه، فوزن قدراً لنفسه وجعل الآخر لله تعالى، ونحن قد أخذنا ما لله تعالى، فلما رجع الرسول إلى الجنيد بكى وقال: أخذ ماله ورد علينا مالنا، فتبين بذلك أنه يأخذ ما لله من الله عن بصيره صادقة فلا بأس " عليه "" بذلك " والله الموفق " و " المعين.
لله الأمر من قبل ومن بعد
[ميل القلوب ونفرتها]
كان بعض الطلبة من أصحابنا في قرية، وكانت القرية قرية سوء، وأهلها كذلك، ثم إن بعض الأصحاب رام لوم ذلك الطالب على الاستقرار فيها فقال له: كيف تبقى في تلك القرية وهي كيت وكيت يعدد عليه مساويها؟ فقال الطالب: أحمد الله وأشكره، فلما قال ذلك استحمقه اللائم وازداد في الإنكار عليه وأنه كيف يحمد على هذا، فقال له الطالب: قد رأيت كلَّ ما ترون من مساويها، وعلمت منها ما تعلمون أو أكثر، ومع ذلك فأجد قلبي غير نفور عنها " فأحمد الله تعالى إذ قضى عليَّ الاستقرار فيها ولم ينفر قلبي عنها " فلو أنه تعالى قضى عليَّ وَكرهها لي وأنا لا أجد بداً منها بحكم القضاء فما ترون يكون عيشي عند ذلك؟ فلما قرر هذا المعنى وجدوه معنى لطيفاً تنبه إليه وسلموا له.
وشرح ذلك باختصار أن الله تعالى أودع في طبع الآدمي ميلاً إلى شيء ونفوراً عن شيء، ويسمى الأول ملائماً، إما حسياً كالشراب والطعام واللباس والنكاح " في الجملة ونحو ذلك " وإما معنوياً " كالعز " والجاه والراحة والصحة والعافية ونحو ذلك، ويسمى الثاني منافراً إما حسياً أيضاً كالعَذِرة والبول والدم والميتة والشوك والجرح والضرب والسجن والقيد ونحو ذلك، وإما معنوياً كالذل والمهانة والعجز والضيم والغم والحزن ونحو ذلك.
ثم إن الأعيان الموجودة في الدنيا كالأموال المكتسبة وغيرها من الحيوانات العجماوات والجمادات مثل الأمكنة والأزمنة والجهات والقرناء والأصحاب ونحو ذلك منها ما يكون من القسم الأول ملائماً لمقارنته للملائم كالأنعام لما فيها من الأكل والشرب والركوب والحمل والزينة، والرباع لما فيها من الاشتغال بأنواعه، والنساء في الجملة لما فيها من الاستمتاع، وسائر الانتفاع، وعلى الخصوص فيمن وجد ذلك فيه حقيقة أو توهماً، وكذا في سائر ما ينفع له، ولذا قال تعالى:) زُيِّنَ للنّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ (الخ. ومنها ما يكون من القسم الثاني منافراً لمقارنته للمنافر كالسباع والحيات والعقارب والأعداء ونحو ذلك، وكذا الأمكنة والأزمنة والجهات تكون ملائمة إذا كانت ظرفاً للملائم، ومنافرة إذا صارت ظرفاً للمنافر، وهذا هو الأمر المعتاد، وقد تخرق هذه العادة في شخص فيجعل في قلبه ميل إلى غير ملائم أو نفرة عن غير المنافر إما بسبب كالسحر ونحوه، أو بمحض الحكم الأزلي، ولا بد أن يتوهمه في نفسه ملائماً في تلك الحالة أو منافراً، فلا تنتقض العادة الجارية، ثم إن الله تعالى قدر على العبد قبل إيجاده " كل " ما يلقاه من هذه الأشياء، فإن قدر عليه أن يلقى الملائم فعندما يلقاه ينعم من جهتين: إحداهما وجود الانتفاع الذي فيه كما قررنا، والأخرى أنس قلبه به فيكون كما قال عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -: إذا وافق الحق الهوى فهو العسل والزبد، وإن قدر عليه أن يلقى المنافر فهو عندما يلقاه يعذب من جهتين، وهما التضرر الظاهر، والتألم الباطن بالكراهة، وهذان القسمان في الملائم والمنافر الحقيقيين، وهما واضحان جالسان على المعتاد، ووراءهما أربعة أقسام فيما يرجع إلى القلب من الميل والنفرة: الأول أن يقضى عليه بعدم ملاقاة اللائم ولا يخلق في قلبه ميل إليه كحال المجانين أو يخلق له كراهيته.