ومن هذا المعنى ما وقف رجل من فقعس على الفرزدق فقال له الفرزدق: أين تركت القنان؟ فقال: تركته يسامي أو يقابل لصافاً وهما جبلان معروفان، الأول منهما هو الواقع في قول زهير:
جعلن القنان عن يمين وحزْنَهُ ... ومن بالقنان من محل ومحرم
والثاني هو الواقع في قول:
بمصطحبات من لصاف وثبرة ... يزرن إلالا سيرهن التدافع
وإلال هو جبل عرفة، فعرض الفرزدق بالفقعس مشيراً إلى قول الشاعر فيهم:
ضمن القنان لفقعس سوآتها ... إن القنان بفقعس
وأشار الفقعسي بذكر لصاف إلى قول الآخر في تميم:
وإذا ترك من تميم خصلة ... فلَمّا يسوءك من تميم أكثر
قد كنت أحسبهم أسودَ خفيّةٍ ... فإذا لصاف تبيض فيه الحمَرُ
والحمر على وزن صرد، وتشدد ميمه وهو اللائق في البيت طائر شبههم به في الضعف والجبن.
وقال بعضهم: كنت عند جسر بغداد فإذا بفتاة حسناء قد مرت، فجاء فتى من الجانب الآخر، فلما رآها قال: يرحم الله علي بن الجهم، فقالت: ويرحم الله أبا العلاء المعري، ثم انطلق كل لحاجته، ولم يقف قال: فتبعت المرأة وقلت لها: لئن لم تخبريني بما جرى بينكما لأفضحنك، فقالت: لا شيء إلاّ أنه أشار إلى قول علي بن الجهم:
عيون المها بين الرصافة والجسر ... جلبن الخوى من حيث أدري ولا أدري
فأشرت أنا إلى قول المعري:
فيا دارها بالحزن إن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال
وتقدم نحو هذا في قصة المعري وقصة الكسائي.
ومن هذا القبيل في ذكاء العقول ولطافة الأفهام ما يحكى أن المعتمد بن عباد خرج يوماً هو ووزيره أبو بكر بن عمه فمرا بالرحبة فإذا بامرأة بذيّةٍ بين الرجال، فقال المعتمد: " الجيارين " فقال ابن عمار: نعم يا سيدي " والحباسين " فالأول يقول: " الحيا زين " والثاني يقول: " والحنا شين " وصحف كل تعمية على العامة واتكالاً على فهم صاحبه.
وهذا الباب لا يأتي عليه الحصر، وما ورد فيه من الشعر أكثر وأكثر، وقد قيل: أنزلت الحكمة على ألسنة العرب، وما ذلك إلاّ في شعرها، وقال صلى الله عليه وسلم: " إنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً " وتقدمت جملة من ذلك في الأمثال، وسيأتي شيء منه في الوصايا والمواعظ إن شاء الله.
لله الأمر من قبل ومن بعد
[باب]
[نبذة في أبيات المعاني والألغاز العربية]
وهذه نبذة من أبيات المعاني والألغاز العربية، وأتبعناها للحكم والأجوبة المسكتة للمناسبة الظاهرة، فإن الكل منشؤه الذكاء والفطنة، والألغاز وإن كانت كما قال المحققون " من " صنعة البطالين لا نريد أن نخلي الكتاب من شيء عنها لقصد التفنن والإحماض و " قد " تقدم شيء من أبيات المعاني " في الكتاب " ومن ذلك في الأنواء قول بعض السدوسيين:
إذا القوس وترها أيِّدٌ ... رمى فأصاب الكلى والذُّرا
يريد أن القوس أعني قوس قزح إذا وترها أي أقامها ونصبها على ما هي أيّد أي قوي، وهو الموكل بها، أو الفاعل المختار سبحانه رمى بالغيث فأصاب بالشحم كلى الأنعام وذُراها.
وفي صفة السيف قول الآخر:
وكنت إذا الإبريق أقعى على استه ... وظن نديم الشر أن ليس راويا
كررت عليه الكأس حتى كأنما ... يرى بالذي أسقيه منه الأفاعيا
الإبريق السيف لأنه يسقي الموت، وإقعاؤه على استه أن يأخذ بقائمه عند إرادة الضرب، ونديم الشر العدوّ، والكأس كأس الشّر.
وفي صفة الظل قول الآخر:
وصاحب غير ذي ظلٍ ولا نفَسٍ ... هيجته بسواء البيد، فاهتاجا
يريد بالصاحب ظله، فإنه لا ظل له، ولا نفس، وقد حركه بمشيئته فتحرك.
ونحوه قول الآخر:
وثنيّةٍ جاوزتها بثنيّةٍ ... حرْف يعارضها ثنيٌّ أدهم
فالثنية الأولى ثنيّة بالجبل، والثانية الناقة التي ذلك سِنُّها، والثني الآخر ظلها، وهو أدهم أي أسود.
وفي اللصوصية قول الآخر:
تعيرني ترك الرماية خُلّتي ... وما كل من يرمي الوحوش يَنالُها
فإلا أصادف غرة الوحش أقتنص ... من الإنسيات العظام جُفالها
أي إن لم أقتنص الوحش أسرق من الغنم العظام الجفال أي الصوف.
وقول الآخر:
توخّى بها مجرى سُهَيْلٍ وخلفه ... من الشام أعلام تطول وتقصر
فلما رأى أن النِّطافَ تعذرت ... رأى أن ذا الكلبين لا يتعذر