للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقال معاوية لابنه يزيد وهو ابن تسع سنين: في أي سورة أنت يا بني؟ وكان في سورة القتال، فكره أن يذكرها فقال: أنا في السورة التي تلي:) إنّا فَتَحْنَا لَكَ فَتحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (يا أمير المؤمنين، فقال معاوية: هذه السورة تليها سورتان، وهي بينهما، ففي أيتهما أنت؟ قال: في السورة التي فيها:) وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلى مُحَمّدٍ وَهُوَ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّآتِهِمْ وَأصْلَحَ بَالَهُمْ (فتمثل معاوية حينئذ بقول الشاعر:

ملوك وأبناءُ الملوك وسادة ... تفلق عنها بيضة الطائر الصقر

متى تلق منهم ناشئاً في شبابه ... تجده على آثار والده يجري

ولما أصاب أهل البوادي القحط أيام هشام بن عبد الملك وفدت عليه رؤساء القبائل وفيهم صبي صغير في رأسه ذؤابة، وعليه بردة يمنية فأنكر هشام حضوره وقال للحاجب: ما يشاء أحد أن يصل إلينا إلاّ وصل حتى الصبيان، فقال الصبي: يا أمير المؤمنين إن دخولي لم ينقصك، ولكن شرفني، وإن هؤلاء قدموا لأمر فهابوك دونه، وإن الكلام نشر والسكوت طي لا يعرف إلاّ بنشره، فأعجب هشاماً كلامه " فقال له: " انشر لا أم لك فقال: يا أمير المؤمنين أصابتنا سنون ثلاث، فسنة أذابت الشحم، وسنة أكلت اللحم، وسنة أنقت العظم، وفي يدكم نصول أموال، فإن كانت لله ففرقوها على عباده، وإن كانت لهم فعلام تحبسونها عنهم؟ وإن كانت لكم فتصدقوا بها عليهم، فإن الله يجزي المتصدقين، ولا يضيع أجر المحسنين، فقال هشام: ما ترك لنا الغلام في واحدة من الثلاث عذراً، وأمر بمائة ألف درهم " ففرقت في البادية وأمر للغلام بمائة ألف درهم " فقال: ارددها في جائزة العرب، فما لي بها حاجة في خاصة نفسي دون سائر المسلمين، فكان في هذه أعجب.

ولما استخلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه جاءته الوفود، فحين دخل عليه وفد أهل الحجاز أراد غلام منهم أن يتكلم فقال له عمر: يا غلام، يتكلم من هو أسن منك، فقال الغلام: يا أمير المؤمنين، إنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، فإذا منح الله عبده لساناً لافظاً، وقلباً حافظاً، فقد أجاد " له " الاختيار، ولو أن الأمور بالسن لكان هنا من هو أحق بمجلسك منك، فقال له: صدقت فتكلم، فهذا هو السحر الحلال، فقال: يا أمير المؤمنين، نحن وفدُ التهنئة، لا وفد المرزئة، لم تقْدِمْنا إليك رغبةٌ ولا رهبةٌ، لأنا قد أمِنّا في أيامك ما خفناه، وأدركنا ما طلبناه، وفي رواية: أما الرغبة فقد أوصلها لنا فضلك، وأما الرهبة فقد أمّننا منها عدلك، فتهلل وجه عمر عند ثناء الغلام عليه، وسأل عن سن الغلام فقيل: عشر سنين ثم كأن عمر خاف العجب فأقبل على الغلام وقال: عظنا يرحمك الله: فقال: يا أمير المؤمنين، لا يغلبن جهل القوم بك معرفتك بنفسك، فأجهل الناس مضن ترك يقين ما عنده لظن ما عند الناس، وإن قوماً خدعهم الثناء، وغرهم الشكر، فزلت أقدامهم فهوُوا في النار، أعاذك الله يا أمير المؤمنين أن تكون منهم، وألحقك بصالح سلَف هذه الأمة، فجعل عمر يبكي حتى خيف عليه.

ودخل الأحنف بن قيس على معاوية فقال له معاوية: ما الشيء الملفف في البجاد؟ قال: السخينة يا أمير المؤمنين، أشار معاوية إلى قول الشاعر يهجو بني تميم بحب الطعام:

إذا ما مات ميت من ... وسرك أن يعيش فجئ بزاد

بخبز أو بلحم أو ... أو الشيء الملفف في البجاد

وأصل ذلك أن عمرو بن هند لما حلف ليحرقن من بني تميم مائة في ثأره أخذهم فجعل يلقيهم في النار، حتى بقي له واحد من العدة، فإذا برجل تميمي من البراجم قد ذهب في حاجة فشم روائح المحترقين فقال: هذا شواء اتخذه الملك، فمال إليه، فلما وقف عليه قال له: من أنت؟ قال: برجميّ، فقال الملك: " إن الشقيّ وافد البراجم " وأمر به فقذف في النار تكميلاً للعدد، فمن ذلك عيّرت العرب تميماً بحب الطعام، وقال الشاعر:

ألا أبلغ لديك بني تميم ... بآية ما يحبون الطعاما

وأشار الأحنف بذكر السخينة، وهي حساء رقيق كانت قريش تتخذه في الشدة ويعيرون به.

<<  <   >  >>