يصف السحاب وفعله وانتفاع الأرض به على طريق التّمثيل، فقوله: أغر أي سحاب فيه برق " أو " أبيض، وقوله: بكر أي لم يمطر قبل ذلك، وقوله: توسن بالخميلة عوناً أي طرقها ليلاً وقت الوسن أي النعاس، والخميلة رملة لينة ذات شجر، والعون جمع عوان، وهي في النساء التي كان لها زوج، وهنا هي الأرض التي أصابها المطر قبل، على التشبيه، وقوله: متسنم سنماتها أي طالع على الأكام والتلال، وأصله في الجمل يتسنم الناقة أي يعلو عليها، وهي سَنمة أي عظيمة السنام، مرتفعته، قوله: متبجس أي متكبر، بالهدر أي رعده يملأ أنفساً وعيوناً عجباً به أو رعباً منه، قوله: لقح العجاف أي الأرضون المجدبة حملت به الماء فأنبتت العشب، وذلك بعد تحلُّؤٍ أي امتناع من السقي لعدم المطر، فهذا كله تمثيل، وقول الآخر:
حلوا عن الناقة الحمراء أرحلكم ... والبازل الأصهب المعقول فاصطنعوا
إن الذئاب قد اخضرت براثنها ... والناس كلهم بكر إذا شبعوا
أراد بالناقة الحمراء الدهناء، وبالجمل الأصهب الصمان، كأنه يقول: ارتحلوا عن السهل وألجئوا إلى الجبال مخافة الغارات، والقائل كان أسيراً فكتب إلى قومه ينذرهم، وكانت بكر لهم عدواً فهو يقول: الناس كلهم إذا شبعوا أعداء لكم كبكر حذروهم، وهذا المعنى مذكور في قصة أخرى: يحكى أن رجلاً من بني العنبر كان أسيراً في بكر بن وائل، فسألهم رسولاً إلى قومه فقالوا له: لا ترسل إلاّ بحضرتنا، وكانوا أزمعوا غزو قومه، فتخوفوا أن ينذرهم، وذلك هو ما أراد هو أيضاً، فأتوه بعبد أسود فقال له: أبلغ قومي التحية وقل لهم: ليكرموا فلان، يعني أسيراً من بكر كان عندهم، فإن قومه لي مكرمون، وقل لهم إن العرفج قد أدبي، وقد شكت النساء. وأمرهم أن يعروا ناقتي الحمراء، فقد أطالوا ركوبها، وأن يركبوا جملي الأصهب بآية ما أكلت معهم حيساً، واسألوا الحارث عن خبري، فلما أبلغهم العبد الرسالة قالوا: جُنّ الأعورُ، والله ما نعرف له ناقة حمراء ولا جملاً أصهب، ثم سرّحوا العبد ودعوا الحارث فحدثوه بالحديث فقال: قد أنذركم، أما قوله: العرفج قد أدبى فكناية عن الرجال وأنهم استلأموا أي لبسوا الدروع للغزو، وقوله: شكت النساء أي اتخذن الشكاء للسفر، وهي جمع شكوة، معروفة، والحيس أراد به الأخلاط من الناس المجتمعون للغزو، لأن الحَيْسَ يجمع الأقِطَ والسمن والتمر.
لله الأمر من قبل ومن بعد
[فضل العلم]
كنت في أعوام الستين وألف مرتحلاً في طلب العلم، فدخلت قرية في أرض دكالة، فرأيت فيها رجلاً مسناً قد لازم المسجد منقطعاً عن الناس، فجلست إليه مستحسناً لحاله، وفي الحديث " إذَا رَأيْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ أُعْطِيَ زُهْداً في الدُّنْيَا وَقِلَّةَ مَنْطِقٍ فَادْنُوا مِنْهُ، فَإنَّهُ يُلَقَّنُ الحِكْمَةَ ".
فلما دنوت منه إذا هو يعظم العلم وأهله تعظيماً بالغاً، فازددت به عجباً، فكنت أجلس بين يديه ويحدثني ويصبرني على الغربة، ويحضني على العلم رحمة الله عليه، وأنشدني في شأن الغربة ملحوناً:
أنا الغريب المتوح ... صابر على كلّ هانا
إلى نتجرح ما نقل اح ... في قلب من قطعت أنا
وفي نحو هذا يقول الشاعر:
إذا كنت في قوم عِداً لست منهم ... فكل ما علفت من خبيث وطيب
وإن حدثتك النّفس أنك قادر ... على ما حوت أيدي الرجال فكذب
وقال الآخر:
لا يعدم المرء كِنّاً يستقر به ... وَبُلغةً بين أهليهِ وأحبابه
ومن نأى عنهم قلت مهابته ... كالليث يحقر لما غاب عن غابه
وقال الحريري:
إن الغريب الطويل الذيل ممتهن ... فكيف حال غريب ما له قوت
وأنشدني في مدح العلم ملحوناً:
العلم شمعا منيرا ... يتناوله الأكياس
ما فوق منو ذخيراً ... يزول عن القلب الإحساس
وفضل العلم وشرفه أمهر أشهر من أن يذكر، وأوضح من أن ينكر، ويكفي في ذلك النظر.