قد جن أضيافك من جوعهم ... فاقرأ عليهم سورة المائده "
ومن الملح القديمة ما يحكى عن نبي الله سليمان عليه السلام أنه وعدته الهدهد وهو في ساحل البحر أن تضيفه هو وجنوده أجمعين، فلما كان الوقت جاءت بجرادة فرمت بها في البحر ثم قالت لهم: دونكم، فمن فاته اللحم فليشرب المرق، فضحكوا من ذلك حولاً كاملاً.
لله الأمر من قبل ومن بعد
[باب في]
[ذكر شيء من أخبار الثقلاء]
اعلم أن الثقلاء أشد الخلق ضرراً على العقلاء، وأثقل من رواسي الجبال على قلوب النبلاء، قيل لجالينوس: لم صار الرجل الثقيل أثقل من الحِمْل الثقيل؟ فقال: لأن ثقله على القلب دون الجوارح، والحِمْل الثقيل يستعين القلب عليه بالجوارح، وكان أبو هريرة - رضي الله عنه - إذا استثقل رجلاً يقول: اللهم اغفر لنا وأرحنا منه، وقال الأعمش: من فاتته ركعتا الفجر فليلعن الثقلاء، ونقش على خاتمه: يا مقيت أبرمت فقم، فإذا استثقل جليساً ناوله إياه، وربما أنشد:
وما الفيل تحمله ميتاً ... بأثقل من بعض جلاسنا
وقال له رجل: مم عمشت عيناك؟ فقال: من النظر إلى الثقلاء أمثالك، وقال جالينوس: لكل شيء حمى وحمى الروح النظر إلى الثقيل. وكان حماد بن زيد إذا استثقل جليساً قال:) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنّا العَذَابَ إنّا مُؤْمِنُونَ (وكان يجلس إلى معمر بن المثنى رجل ثقيل اسمه زنباع، فسأل رجل يوماً معمراً عن معنى الزنبعة في كلام العرب فقال: التثاقل، ولذلك سمي جليسنا هذا به.
وقال أبو العتاهية لابن له ثقيل: يا بني أنت والله ثقيل الظل، مظلم الهوا، خامد النسيم، بارد حامض منتن.
وقال زياد بن عبد الله: قيل للشافعي: هل يمرض الروح قال: نعم من ظل الثقلاء قال: فمررت به يوماً وهو بين ثقيلين فقلت: كيف الروح؟ فقال في النزع. وقال سهل بن هارون: من ثقل عليك بنفسه، وأغم عليك بحديثه، فأعره عيناً عمياء، وأذناً صماء. وكان بعض الظرفاء إذ رأى ثقيلاً يقول: قد جاءكم الجبل، فإذا جلس قال: قد وقع عليكم، وقيل لظريف له ثلاثة بنين ثقلاء: أي بنيك أثقل؟ قال: ليس بعد الكبير أثقل من الصغير إلاّ الأوسط.
وكان يلم ببشار ثقيل اسمه أبو سفيان، فسئل عنه فقال: لا أدري كيف لم تحمل الأمانة أرض حملته، ولا كيف احتاجت إلى الجبال بعدما أقلته، كأن قربه أيام المصائب، وليالي النوائب، وكأن عشرته فقد الحبائب، وسوء العواقب، ثم أنشد:
ربما يثقل الجليس وإن كا ... ن خفيفاً في كفة الميزان
ولقد قلت حين وتّد في البيْتِ ... ثقيل أربى على ثهلان
كيف لا تحمل الأمانة أرض؟ ... حملت فوقها أبا سفيان
وكان له صديق يستثقل، اسمه هلال، فقال لبشار يوماً يمازحه: يا أبا معاذ، إن الله لم يذهب بصر أحد إلاّ عوضه منه شيئاً، فما عوضك؟ قال: الطويل العريض، قال: وما هو؟ قال: أن لا أراك ولا أرى أمثالك من الثقلاء ثم قال: يا هلال، تطيعني في نصيحة أخصك بها؟ قال: نعم، قال: إنك كنت تسرق الحمير زماناً، ثم تبت وصرت رافضياً، فعد، والله، إلى سرقة الحمير، فهي والله، خير لك من الرفض، وفي هلال هذا يقول بشار:
وكيف يخف لي بصري وسمعي ... وحولي عسكران من الثقال
قعوداً عند دسكرتي وداري ... كأن لهم عليَّ فضول مال
إذا ما شئت جالسني هلال ... وأي الناس أثقل من هلال؟
وقال الحمدويّ: بعث إلي أحمد بن حرب المهلبي في غداة غيم فأتيته وعنده عجاب المغنية، فلما أكلنا أخذنا في الشراب والغناء، فمرت لنا أطيب ساعة فقال ابن حرب: اللهم اكفنا ثقيلاً ينغص، فما تم قوله حتى دق الباب ففتح فدخل رجل آدم ضخم، فلم يدر كيف يسلم، ولا بم يتكلم، وخطا فعثر في قدح فكسره، فلما رأيت ما حل بنا أخذت القلم والقرطاس وكتبت:
كدّر الله عيش من كدّر العي ... ش وقد كان صافياً مستطابا
جاءنا والسماء تهطل بالغي ... ث وقد طابق السماع الشرابا
كسر الكأس وهي كالكوكب الدر ... ي ضمت من المدام لعابا
قلت لما رُميت منه بما أكس ... ره والدهر ما أفاد أصابا
عجل الله نقمة لابن حرب ... تدع الدار بعد شهر خرابا