وروي عنه " أيضاً " عليه السلام أنه مر وهو في جمع من أصحابه بزرع قد أفرك فقال أصحابه: يا نبي الله، نحن جياع، فأوحى الله تعالى إليه أن ائذن لهم في قوتهم، فأذن لهم، فدخلوا " الزرع " يفركون ويأكلون، فبينما هم كذلك جاء صاحب الزرع فقال: بإذن من تأكلون يا هؤلاء زرعي، وأرضي ورثتها عن آبائي، فدعا عيسى عليه السلام تعالى فبعث الله كل من ملك تلك الأرض من ولد آدم عليه السلام، فإذا عند كل سنبلة رجل أو امرأة يقول: أرضي ورثتها عن آبائي، ففزع الرجل منهم، وكان قد بلغه أمر عيسى وهو لا يعرفه، فقال: معذرة إليك يا رسول الله، إني لم أعرفك فزرعي ومالي لك حلال، فبكى عيسى عليه السلام وقال: ويحك هؤلاء كلهم ورثوا هذه الأرض وعمروها وارتحلوا عنها، وأنت مرتحل وبهم لاحق، ويحك ليس لك أرض ولا مال.
ولما دخل أبو الدرداء الشام قال: يا أهل الشام: اسمعوا قول أخ ناصح، مالي أراكم تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون، إن الذين كانوا قبلكم بنوا مشيداً، وأملوا بعيداً، وجمعوا كثيراً، وشيدوا قصوراً، فأصبح أملهم غروراً، وجمعهم ثبوراً، ومساكنهم قبوراً.
لله الأمر من قبل ومن بعد
[عدي بن زيد والأمير النعمان]
وكان عدي بن زيد العِباديّ ممن تنضر ودان بدين المسيح، وكانت له حظوة عند النعمان بن امرئ القيس، فحضر عنده يوماً والنعمان في أحسن زِيٍّ في مجلسه مع ندمائه فلما شرب وطرب قال لعدي: كيف ترى هذا النعيم الذي نحن فيه يا أبا زيد؟ فقال: إنه حسن لو كان لا ينفَدُ، ومسرة لو كانت تدوم، فقال: أو كل ما أرى إلى نفاد؟ قال: نعم، أبَيْتَ اللّعْن، فقال النعمان: وأي خير فيما يفنى؟ فلما رأى عدي ذلك منه طمع في ارعوائه، فجعل يعظه، فلما خرج سايره، فمروا بمقبرة فقال أيها الملك أتدري ما تقول هذه القبور؟ قال: لا، قال: إنها تقول:
أيها الركب المخبون ... وعلى الأرض المجدون
مثلما أنتمُ كنّا ... وكما نحن تكونون
فظهر على النعمان انكسار.
ثم إنهم مروا بشجرات متَناوِحاتٍ بينها عين جارية فقال عدي: أتدري ما تقول هذه الشجرات أبَيْتَ اللّعْنَ؟ قال: لا، قال: إنها تقول:
مَن رآنا فليحدث نفسه ... أنه موفٍ على قرن زوال
وصُروف الدهر لا يبقى لها ... ولما تأتي به صُمُّ الجبال
رب ركب قد أناخوا حولنا ... يشربون الخمر بالماء الزلال
والأباريق عليها فُدمٌ ... وعتاق الخيل تردي بالجلال
عمروا دهراً بعيش حسن ... آمني دهرهم غير عجال
ثمّ أضحوا عَصَفَ الدهرُ بهم ... وكذاك الدهر يُودي بالرجال
وكذاك الدهر يرقى بالفتى ... في طلاب العيش حالاً بعد حال
فوقع كلامه منه أحسن موقع فقال له: ائتني عند السحر، فإن عندي أمراً أطلعك عليه، فأتاه فوجده قد لبس مِسْحاً وأخذ أهبة السياحة فودعه وذهب، ولم يعلم له بعد ذلك خبر، وذكر أنه قال له: قد علمت أن القبور لا تتكلم، والشجرة لا تتكلم، وإنما أردت موعظتي، ففيم النجاة؟ فقال له عدي: تترك عبادة الأوثان وتدين بدين المسيح عليه السلام، فننصر النعمان حينئذ: وفي معنى هذا قول شاعر قديم:
يا أيها الناس سيروا إن قصدكم ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا
حثوا المطايا وأرْخوا من أزمّتها ... قبل الممات وقضّوا ما تُقضّونا
كنّا أناساً كما كنتم فغيّرَنا ... دهر فأنتم كما كنا تكونونا
لله الأمر من قبل ومن بعد
[من شعر أبي العتاهية]
[في الزهد والمواعظ]
ودخل أبو العتاهية على الرشيد حين بنى قصره، وزخرف مجلسه، واجتمع إليه خواصه، فقال له: صف لنا ما نحن فيه من الدنيا فقال:
عش ما بدا لك آمناً ... في ظلّ شاهقة القصور
فقال الرشيد: أحسنت، ثم ماذا؟ فقال:
يسعى إليك بما اشتهي ... ت لدى الرواح وفي البكور
فقال: حسن، ثم ماذا؟ فقال:
فإذا النفوس تقعقعت ... في ضيق حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً ... ما كنت إلاّ في غرور
فبكى الرشيد بكاء شديداً حتى رُحِم، فقال له الفضل بن يحيى: بعث إليك المؤمنين لتسره فأحزنته، فقال له الرشيد: دعه فإنه رآنا في عمى فكره أن يزيدنا عمى:
ألا نحن في اللديا قليل بقاؤها ... سريع تعديها وشيك فناؤها