للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مقربها مقصى ومرفوعها لقىً ... ومنهلها مظما ومكسوها معرى

وقولي فيها:

وإن أبصروا بالمملق اهتزأوا به ... ومدوا إليه طرفهم نظراً شزرا

وقالوا بغيض إن نأى ومتى دنا ... يقولون ثقيل مبرم " أدبر الفقرا "

فإن غاب لم يفقد، وإن علّ لم يعد ... وإن مات لم يشهد، وإن ضاف لم يقرا

وهذا الباب لا ينحصر، وقد أودعنا منه " كتاب الأمثال والحكم " قدراً صالحاً، ولنقتصر على هذا القدر هنا خوفاً من الملل.

لله الأمر من قبل ومن بعد

[روايات المؤلف عن محمد الحاج الدلائي]

حدثني الرئيس الأجلّ أبو عبد الله محمد الحاج بن محمد بن أبي بكر الدلائي رحمه الله قال: لما نزلنا في طلعتنا إلى الحجاز بمصر المحروسة خرج للقائنا الفقيه النبيه أبو العباس أحمد بن محمد المقري قال: وكنت أعرفه عند والدي لم يشب، فوجدته قد شاب، فقلت له: شبت يا سيدي فاستضحك ثم قال:

شيبتني غرندل ويحار ... وبحار فيها اللبيب يحار

قال: وحدث أنهم كانوا ركبوا بحر سويس فهال بهم مدة من نحو ستة أشهر، وهم يدورون دوراناً، وأنه ألف في تلك المدة موضوعاً في علم الهيئة وسارت به البركان، فلما خرج من البحر وتصفحه وجد فيه الخطأ الفاحش، وقد فات تداركه، وذلك مما وقع له من الهول. قال: وإذا هو قد خرج معه برجل ضرير البصر فقال: هذا الضرير من أعاجيب الزمان في بديهة الشعرِ، فألقِ عليه أي بيت شئت يأت عليه ارتجالاً بما شئت من الشعر، ثم عهْدُه به أن يقوله فلا يبقى شيء منه في حفظه، فأتيتكم به لتشاهدوا من عجائب هذه البلاد ونوادرها وتذهبوا بخبر ذلك إلى بلادكم قال: فاقترحوا مني بيتاً يقول عليه، فحضر في لساني بيت ابن الفارض:

سائقَ الأظعان يطوي البِيدَ ... مسرعاً عرِّج على كثبان طيْ

قال: فذكرته فاندفع على هذا الروي مع صعوبته حتى أتى بنحو مائة بيت ارتجالاً.

قلت وهذا غريب، فإن هذا القدر كله يعز وقوعه من العرب المطبوعين فكيف بالمولدين؟ فكيف بآخر الزمان الذي غلبت فيه العجمة على الألسن؟ ولكن رب الأولين والآخرين واحد، تبارك الله أحسن الخالقين! وحدثني أن الفقيه أبا العباس المذكور كان أيام مقامه بمصر قد اتخذ رجلاً عنده بنفقته وكسوته وما يحتاج على أن يكون كلما أصبح ذهب يقتري البلد أسواقاً ومساجد ورحاباً وأزقة، وكل ما رأى من أمر واقع أو سمع يُريحُه عليه بالليل فيقصه عليه.

قلت: وهذا اعتناء الأخبار والنوادر والتواريخ.

وقد كان نحو هذا لشيخ مشايخنا أبي عبد الله محمد العربي ابن أبي المحاسن يوسف الفاسي، فكان من دأبه أنه متى لقي إنساناً يسأله من أي بلد هو؟ فإذا أخبره قال: من عندكم من أهل العلم؟ من عندكم من أهل الصلاح؟ ومن الأعيان؟ فإذا أخبره بشيء من ذلك كله سجله، وهذا الاعتناء بالأخبار والوقائع والمساند ضعيف جداً في المغاربة، فغلب عليهم في باب العلم الاعتناء بالدراية دون الرواية، وفيما سوى ذلك لا همة لهم.

وكان أبو عبد الله المذكور يذكر في كتابه " مرآة المحاسن " أنه كم في المغرب من فاضل ضاع من قلة اعتنائهم، وهو كذلك.

وقد سألت شيخنا الأستاذ أبا عبد الله ابن ناصر رحمه الله ورضي عنه يوماً عن السند في بعض ما كنت آخذه عنه فقال لي: إنا لم تكن لنا رواية في هذا، وما كنا نعتني بذلك. قال: وقد قضيت العجب من المشارقة واعتنائهم أمثال هذا حتى إني لما دخلت مصر كان كل من يأخذ عني عهد الشاذلية يكتب الورد والرواية والزمان والمكان الذي وقع فيه ذلك.

منافسة علماء مصر لأحمد المقري

<<  <   >  >>