وإنما ذكرنا هذا ليعلم وينتبه لمن هذا حاله، فكم تظاهر بالخير من لا خير فيه من مجنون أو معتوه أو موسوس أو ملبس، فيقع به الاغترار، للجهلة الأغمار.
ما أنت سار غرّه قمر ... ورائدٍ أعجبه خضرة الدمَنِ
وقد يشايعه من هو على شاكلته من الحمقى ومن الفجار، وشبه الشيء منجذب إليه.
إن الطيور على أجناسها تقع
فيغتر الأغبياء بذلك إلا من عصمه الله.
وقد صعدت في أعوام الستين وألف إلى جبل من جبال هسكورة فإذا برجل نزل عليهم من ناحية الغرب، واشتهر بالفقر، وبنى خباء له وأقبل الناس عليه بالهدايا والضيافات، وكان من أهل البلد فتى يختلف إليه ويبيت عنده، فاستراب من أمره بعض الطلبة، فتلطف مساء ليلة حتى ولج الخباء، فكمن في زاوية منه فلما عسعس الليل قام المرابط إلى الفتى فاشتغل معه بالفاحشة، نسأل الله العافية، ثم علم أن قد علموا به فهرب، وبلغ الخبر إلى اخوة الفتى فتبعوه، ولم أدر ما كان من أمره، ومثله كثير. ومن أغرب ما وقع من هذا أيضاً بسجلماسة ما حدث به أخونا في الله الولي الصالح أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن علي بن طاهر الشريف المعروف بابن علي رضي الله عنه قال: ما لعب بإخواننا يعني أشراف سجلماسة إلاّ رجل جاءهم في البلد واتَّسم باسم الصلاح، ووقع الإقبال عليه، فكان يأتيه الرجل فيعده بأن يبلغه إلى مكة ويحج به طرفة عين، واستمر على ذلك مدة، ثم قام نفر من الأشراف اتفقوا على اختباره، فكمنوا قريباً منه، وتقدم إليه أحدهم وعنده نحو خمسين مثقالاً فقال له: يا سيدي إن هذه الصلاة تثقل علي، فعسى أن ترفعها عني، وأفرغ تلك الدراهم بين يديه، وكأنه هش لذلك، فبادره الآخرون قبل أن يستوفي كلامه وأوجعوه ضرباً وطردوه. ثم بعد مدة سافر بعضهم إلى الغرب فمر بعين ماء هنالك، فإذا الرجل عندها يستقي قربة له منها، وإذا هو يهودي من يهود معروفين هنالك، نسأل الله العافية.
فالحذر مطلوب، ولا سيما فيما نحن فيه من آخر الزمان الذي استولى فيه الفساد على الصلاح، والهوى على الحق، والبدعة على السنّة، إلاّ من خصه الله وقليل ما هم، وفيه قيل:
هذا الزمان الذي كنّا نحاذره ... قول كعب وفي قول ابن مسعود
إن دام هذا ولم يحدث له غير ... يبك ميت ولم يفرح بمولود
بل نقول: ليته يدوم، فإنه لا يأتي بأمان إلاّ والذي بعده شر منه كما في الحديث الكريم.
نعم لا بد للناس من تنفيس، فنسأل الله تعالى أن يرزقنا تنفيساً نقضي فيه ما بقي من أعمارنا في خير، ونستعتب مما مضى، إنه الكريم المنان.
هذا، ولا بد مع الحذر من حسن الظن بعباد الله، ولا سيما من ظهر عليه الخير والتغافل عن عيوب الناس.
وفي الخبر: خصلتان ليس فوقهما شيء من الخير: حسن الظن بالله وحسن الظن بالناس، وخصلتان ليس فوقهما شيء من الشر: سوء الظن بالله وسوء الظن بالناس، ومن تتبع عيوب الناس تتبع الله عيوبه حتى يفضحه في قعر بيته.
فالاعتراض بلا موجب جناية، واتباع كل ناعق غواية.
وفي كلام مولانا علي كرم الله وجهه: الناس ثلاثة: عالم ربّاني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهَمَجٌ رَعاعٌ، أتباع كل ناعق. فمن ثبتت استقامته، وصح علمه وورعه وجب اتباعه، ومن اتسم بالخير وجب احترامه على قدره، والتسليم له في حاله، ومن ألقى جلباب الحياء عن وجهه وجب لومه، وإذا ظهرت البدعة وسكت العالم فعليه لعنة الله، ولا بد من مراعاة السلامة.
وهذا باب واسع لا يكفيه إلاّ ديوان وحده، وإنما ذكرنا هذه الإشارة استطراداً.
لله الأمر من قبل ومن بعد
[أشعار في الكرم وخدمة الضيف]
من الشعر المستملح في باب التكرم قول المقنَّع الكِندي أنشده القالي في النوادر:
يعاتبني في الدَّين قومي وإنما ... ديونيَ في أشياء تكسبهم حمدا
أسدُّ به ما قد أخلّوا وضيعوا ... ثغورَ حقوقٍ ما أطاقوا لها سدا
وفي جفنة ما يغلق الباب دونها ... مكللة لجماً مدفقة ثردا
وفي فرس نهد عتيق جعلته ... حجاباً لبيتي ثم أخدمته عبدا
وإن الذي بيني وبين أبي ... وبين بني عمّي لمختلف جدا
فإن يأكلوا لحمي وفرْتُ لحومهم ... وإن يهدموا مجدي بنيت لهم مجدا
وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم ... وإن هم هوُوا غيي هويت لهم رُشدا