ومن هذا ما وقع للحكماء في البرهان وفي الفلسفة وفي الهندسة وفي أنواع الصنائع والحرف وأصناف الحيل وضروب الغرائب في الأفعال والأقوال، ومن رزقه الله تعالى فهماً من لدنه ونوراً كان أقوى وأكثر، حتى لا يكاد يطير طائر إلاّ استفاد من طيرانه، أو يصر باب إلاّ استفاد من صريره، أو يتكلم متكلم إلاّ استفاد من كلامه، ما لم يرده المتكلم ولم يخطر له ببال، وهذا مشهور عند أهل الطريق من العارفين والمحبين والمريدين الصادقين رضي الله عنهم.
لله الأمر من قبل ومن بعد
[تذوق الصوفية معاني الأبيات]
[والإشارات تأويلها حسب المقامات]
وقد قال أبو نواس في ممدوحه:
تغطيت عن دهري بظل جناحه ... فعيني ترى دهري وليس يراني
فلو تسأل الأيام عني ما درت ... وأين مكاني ما عرفن مكاني
فكان هذا مشرباً عندهم في حق أهل كهف الإيواء من الأصفياء الأخفياء رضي الله عنهم، وهو واضح.
وقال أيضاً في الخمريات:
إذا العشرون من شعبان ولّت ... فواصل شرب ليلك بالنهار
ولا تشرب بأقداح صغار ... فقد ضاق الزمان على الصغار
فصار عندهم موعظة في الإكثار من العمل الصالح والتشمير للتزود للمعاد، ولا سيما عند إيناس قرب الأجل، وخشية فوات الأمل. وقال أيضاً:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء
فصارت مشرباً للمحبين أهل الشوق والذوق، رضي الله عنهم.
وفي مناقب الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه، أنه في مسيره إلى المشرق، وكان في محفّته، فكان فتيان ذات يوم يمشيان تحته في ظلها ثم جعلا يتحدثان، فقال أحدهما " للآخر ": يا فلان مالي أرى فلاناً يسيء إليك وأنت تتحمل منه؟ فقال له: والله ما كان ذلك مني إلاّ لأنه من بلدي فكنت كما قال القائل:
رأى المجنون في البيداء كلباً ... فجلله من الإحسان ذيلا
فلاموه على ما كان منه ... وقالوا: لِمْ أنلت الكلب نيلا
فقال: دعوا الملام فإن عيني ... رأته مرة في حي ليلى
فسمعه الشيخ فتواجد وجعل يقول: فقال: دعوا الملام..... البيت.
ويكرره ثم خلع غفارته ورمى بها إلى الفتى المنشد فقال له: أنت أولى بها يا بني.
وفي " لطائف المنن ": أنشد إنسان بحضرة الشيخ مكين الدين الأسمر - رضي الله عنه - قول القائل:
لو كان لي بالراح يسعدني ... لما انتظرت لشرب الراح إفطارا
الراح شيء شريف أنت شاربه ... فاشرب ولو حملتك الراح أوزارا
فأنكر بعض الحاضرين على المنشد وقال له: لا يجوز إنشاد مثل هذا الشعر فقال الشيخ للمنشد: أنشد فإن هذا - " يعني " المنكر - رجل محجوب.
وفي أبيات عبد الصمد بن المعَذَّل المشهورة حيث يقول:
يا بديع الدل والغنج ... لك سلطان على المهج
إن بيتاً أنت ساكنه ... غير محتاج إلى السرج
وجهك المأمول حجتنا ... يوم يأتي الناس بالحجج
مشرب عظيم لهم أيضاً.
وقد سمع صوفي هذا البيت من جارية فتواجد وصاح ولم يزل كذلك حتى مات.
" ومن أجلِّ ما يذكر في هذا الباب وأعذبه ما ذكره الشطيبي في " أذكاره " قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الصفة رضي الله عنهم ومعه ابن عباس فوجدهم يناشدون الشعر فيما بينهم، فلما رأوه أمسكوا إجلالاً له صلى الله عليه وسلم، فلما استقر جالساً قال صلى الله عليه وسلم: هل فيكم من ينشدنا شيئاً من الشعر؟ قالوا: نعم يا رسول الله صلى الله عليك، ثم أنشأ بعضهم:
في كل صبح وكل إشراق ... تبكي جفوني بدمع مشتاق
قد لسعت حية الهوى كبدي ... فلا طبيب لها ولا راق
إلاّ الحبيب الذي شغفت به ... فعنده رؤيتي ودرياقي
فتواجد صلى الله عليه وسلم حتى سقط رداؤه عن جسده فأعطاه أهل الصفة وكانوا أربعين رجلاً فقطعه عليهم أربعين قطعة صلى الله عليه وسلم ".
وهذا النوع لا يحصى، وفيه يطيب لهم السماع، ويقع الوجد عند الاستماع، وإنما أردت أن ننبه فيه حيث انجذب الحديث إليه على معنى إيقاظاً وإمتاعاً.
فاعلم أن فهم المعنى عند سماع لفظ القائل يكون على وجهتين: أحدهما أن يكون لدلالة اللفظ المسموع عليه في الخارج إما حقيقة وإما مجازاً، إما لغة وإما عرفاً.