وكنت لا أحسب أن للطائفة التومرتية في دعواهم أزيد من مجرد الدعوى وتقليد شيخهم " المذكور " فكان من غريب الاتفاق أني منذ نظرت في كتب التصوف وقع في يدي كتابان في هذا العلم ينسبان لأبي زيد عبد الرحمن اللجائي، أحدهما " قطب العارفين "، والآخر " شمائل الخصوص "، فكنت أستحسنهما مع العلم من نفسهما أن مؤلفهما ليس من فحول العلماء، ولكن ما فيهما حسن المسلك، سهل المدرك، فكنت أتمنى زيارة المؤلف لاعتقادي أنه من أهل الطريق، وكنت إذا ارتحلت لزيارة الشيخ عبد السلام بن مشيش - رضي الله عنه - أسأل عنه فأجده بعيداً عني حتى إذا كان الحصار على مدينة فاس - حرسها الله - حين قتلوا القائد زيدان خرجت منها وأخذت على جبل بني زروال، فإذا بجبل لجاية قريباً مني، فأجمعت زيارته وتركت الركب وانخزلت إليه في نفر من أصحابي، فصعدنا الجبل إليه، وإذا هم يسمونه سيدي عبد الرحمن التراري فلما وصلنا إلى مقامه خرج إلينا أولاده " فأنزلونا " وأكرموا مثوانا، فلما اطمأن بنا المنزل وزرنا قالوا: هل لك في أن نخرج إليك كتب الشيخ لتراها، فقلت: نعم، فأخرجوا الكتابين المذكورين، فلما رأيتهما سررت بهما واستدللت بذلك على أنه هو ذاك، وأنه هو المؤلف لهما، وأخرجوا كتاباً ثالثاً مجلداً ضخماً ففتحته فإذا هو يسميه " المقصد الأسنى، في المهدي الأقنى "، فلما رأيت ذلك ظننت أنه يتكلم في المهدي المنتظر على نحو ما تكلم عليه الأئمة وإذا هو يخرج أحاديث لعبد الرزاق ويذكر حساباً يتضمن ظهوره إثر المائة الخامسة، وإذا هو يصفه ويذكر أحواله، وإذا كلامه في ابن تومرت المذكور، وإذا هو من الطائفة التومرتية، وذكر في أثناء الكتاب المذكور أنه امتحن على يد قضاة الوقت في ذلك حتى دعي إلى فاس ثم إلى مراكش، وأنه أنقذه الله من المحنة ورجع إلى بلده سالماً، فلما رأيت ذلك استضحكت في نفسي وقلت كما قال أبو علي الفاسي حين وجد الياء منقوطة: ضاعت خطواتنا، واستعجلت القيام، والخروج عن ذلك المقام، ولم أنتظر ما يضعون من طعام، وتخلصت بالاعتذار، بأصحابي الذين خلفت بعدي في الدار، ولما فصلنا عنهم تأملت فقلت: حصل العلم بأن هذا الرجل من تلك الطائفة، والعلم بأن تلك الطائفة قد كان فيها من يحتج لدعواهم الباطلة من أهل العلم، وهاتان فائدتان غريبتان، فلم تضع الخطوات مع أن الخطب سهل، والمجتهد مصيب مأجور، أو مخطئ معذور.
لله الأمر من قبل ومن بعد
[الرياسة والشهرة]
وإذ قد ألممنا بذكر الرياسة والشهرة وضديهما، وذلك مما يبتلى به العام والخاص مع إشكاله والتباسه إلاّ على البصير، فلنشر إلى شرح ذلك باختصار حتى يكون الإنسان منه على محجة واضحة في رشده وغيه، واستقامته وانحرافه في سعيه.
فاعلم أن في كل من الرياسة والشهرة وعدم ذلك شهوة للنفس ونفرة، ومصلحة في الدين والدنيا أو مفسدة، فمن أُلهِم المصلحة في الرياسة أو في الشهرة وسلم من المفسدة ومن الشهوة وأصاب الإمكان فقد حصل على الشرف في الدارين، وفي مثله يقال: المؤمنون أو المتقون بخير فكيف بإمامهم! وإن لم يتوفر له ذلك فإن أنفقت له المصلحة والإمكان أصبح كالسراج يضيء للناس وهو يحترق وفيه يقال: إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وإن اتفقت له المفسدة والإمكان أصبح من الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وفي أمره ورد:" أنَّ هَذَا الأمْرَ يَكُونُ نُبُوءَةً ثُمَّ خِلافَةً ثُمَّ مُلْكاً ثُمَّ عُتُوّاً وَفَسَاداً في الأرْضِ "، وهو الموجود اليوم، وكثير من الحمقى في زماننا يشتكون الجور ويطلبون العدل، ولم يدروا أن الجور قد مضى مع الملوك بعدما مضى العدل مع الخلفاء، ولم يبق إلاّ الفساد، فيا ليت الناس وقف لهم الأمر في الجور فيعيشوا، وإن لم ينفق له الإمكان فهو الفضيحة إن أبدى صفحة عنقه، والغم والوسواس إن شرق بريقه.
أما إن لم يلهم المصلحة وإنما جمحت به الشهوة أو قصد المفسدة فلا سؤال عليه.