منها أن المنازل من مظاهر الكائنات كلها، والقلوب قلوب أرباب الاعتبار والاستبصار يقول إن لهذه الحوادث في قلوبهم منزلة من الحدوث والافتقار إلى الفاعل المختار يتعرفون بها وجود الله تعالى وما له من الصفات " الجلية " والأسماء العلية فهي مقفرة دائرة فانية، والقلوب عامرة منها بالتوحيد، أو منزلة من التقلب في مظاهر التصريف يتعرفون منها ما لله تعالى من الجلال والجمال والعظمة والكبرياء والقهر والبطش والفضل والرحمة والحلم، وبالجملة فالكائنات مرتع لأرباب الاستدلال وأرباب الكمال و) قَدْ عَلِمَ كُل أنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ (، أو القلوب قلوب أهل الغفلة وحب الدنيا، فيقول إن لهذه الحوادث منزلة في قلوبهم محبة لها وتعظيماً، وقد أقفرت هي فلا تنفع ولا حاصل لها ولا بقاء، وقلوبهم عامرة بها مفتونة بالنظر " إليها " والكدح عليها ويكون الكلام تقبيحا للدنيا ونعياً على محبيها.
ومنها أن المنازل منازل السّائرين في السلوك أو المقامات الواصلين، والقلوب قلوب المتوجهين فيقول: إن لهذه المنازل أو المقامات في قلوبهم مكاناً من المحبة لها والاغتباط وحب الاقتداء بأهلها فيها، وقد أقفرت هي بذهاب أهلها، بانتقاص الزمان، فإن الإمام الجنيد كان يقول في زمانه الفاضل: إن هذا العلم قد طوي بساطه منذ زمان، وإنما يتكلم الناس في حواشيه، أو كلاماً بمعناه، فما بالك بزمان كل من يسمع هذا الشعر إلى يوم القيامة، أو القلوب عامرة بالمحبة والاشتياق من سماع أخبارها ومطالعها في الدفاتر، أو عامرة بالمعارف والأسرار من مطالعتها وسماعها، فإنه عند ذكر الصالحين تتنزل الرحمة في القلوب، أو من الاقتداء بما فيها والنسج على منوالها، وهو ظاهر، وقد يفهم من المنازل مواضعهم التي كانوا يتعبدون فيها من المساجد والرباطات " والخلوات " والبراري التي دفنوا فيها والتقرير على حسب ما قبله، وكنت أشرت إلى شيء من هذا الغرض في أبيات من قصيدة طويلة، وهي:
يا قمريّ البان نح حزناً على زمن ... مضى بقوم من الأبرار أمجاد
وسل بنعمان عنهم بعد خيف مِنىً ... وبالمحصَّب يوم الهيد والهاد
واهتف بلبنان بعد القدس مصطرخاً ... وباللّكام نداء الهائم الصادي
ولا تدع غائراً من كلّ أودية ... ولا تدع شامخاً من كلّ أطواد
فتلك أوطان أحبابي وإن نزحوا ... عن مقلي فهم بالقلب شُهّادي
فإن ظفرت بمن يهديك نحوهم ... فقد ظفرت بكنز غير نفاذ
وإن شممْت شذا أخبارهم عَبِقاً ... أبهى من النور في بطحاء مقلاد
فتلك غُنْيَةُ نفس عاقها قدر ... أن تدرك المُنية العظمى بتشهاد
وقد اتفقت لبيت أبي الطيب المذكور حكاية لطيفة تذكر في " باب " الأذكياء، وهي أن أبا العلاء المعري كان يعتني بشعر المتنبي، ويستجيده، حتى حكي عنه أنه قال: أنا الذي يعني أبو الطيب بقوله:
أنا الذي ينظر الأعمى إلى أدبي
ثم إنه حضر يوماً مجلس الأمير فتكلم الأمير حتى وقع في أبي الطيب وغض منه بعض الغض، فأراد المعري أن ينافح عن أبي الطيب فقال: أيها الأمير يكفيك من أبي الطيب قوله:
لك يا منازل في القلوب منازل ... أقفرت أنت وهن منك أواهل
ففطن الأمير وقال لأصحابه: أتدرون ما يقول الأعمى؟ إنه يشير إلى قوله في أثناء هذه القصيدة:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل
خذوا برجله، فجر أبو العلاء حتى خرج، فأنظر إلى لطافة هذه الأذهان، وكيف تلطف هذا بالإشارة، وكيف وقع عليها الآخر؟ ونحوها ما وقع للكسائي، وكان وعده الرشيد صلة ثم غفل عنه، فاتفق أن سايره يوماً إلى أن مروا بموضع فقال: يا أمير هذا منزل عاتكة الذي يقول فيه الشاعر:
يا بيت عاتكة التي أتعزل ... حذر العدا وبه الفؤاد موكل
فتعجب الرشيد من مفاتحة الكسائي له بالكلام، ولم يكن ذلك أدباً مع الملوك، ثم نظر فإذا هو يشير إلى قول الشاعر في أثناء القصيدة:
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق الحديث يقول ما لا يفعل
ففهم ذلك وأمر له بالصلة.
لله الأمر من قبل ومن بعد.
انتقاد أحد القضاة للمؤلف والرد عليه