وانظر إلى الملك الذي أشرف على تَلٍّ ونظر إلى جنوده تحته فأعجبوه، فتمنى أن لو كان حاضراً مع النبي صلى الله عليه وسلم لينصره، فرحمه الله تعالى بفضله على هذه النية، فَانْوِ أنت أيضاً أن لو كانت لك قوة على إظهار الشريعة وإحياء السنة وإخماد البدعة وحسم الباطل وإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم وإقامة ميزان العدل وإصلاح العباد والبلاد، فعسى أن تنال بهذه النية خيراً، وقف هاهنا وطب نفساً عما وراءه، فلا تلج تلك المضايق ولا تتبع تلك الطرائق، وإذا فهمت الدسيسة في هذا القسم فافهمها في غيره والله الموفق.
لله الأمر من قبل ومن بعد
[الكشف والمكاشفة عند الصوفية]
حدثنا شيخنا العلاّمة أبو بكر بن الحسن التطافي رحمه الله " قال: دخلت على شيخنا العلاّمة أبي بكر بن الحسين التطافي رحمه الله " قال: دخلت على شيخنا العلاّمة الزاهد أبي محمد عبد الله " بن علي " بن طاهر الحسني رضي الله عنه يوماً وهو إذ ذاك بقرية أولاد الحاج من بلد مضغرة فقال لي: إن بني يفوس وهم قرية من الخنق وقع بينهم قتال قال: فقلت: يا سيدي أجاء أحد من هنالك؟ قال: لا، ولكن أخبرني بذلك قلبي، وقلبي لا يكذب علي، فقد جربته، وكان بينه وبين هؤلاء مرحلة، قال: فجاء الخبر بعد ذلك بوقوع الأمر كما أخبر به.
وقد رأيت أن أثبت في هذا المعنى كلاماً تتميماً للفائدة كما هو سبيل هذا الكتاب كله، وأنا أبرأ إلى السامع من نفسي، فلا يتوهم أني من أهل هذا المضمار وأني خبرت عن وجدان، وتكلمت عن ذوق، وبينت عن مشاهدة، كلا، وإنما أقرر شيئاً أتعقله فهماً، أو شيئاً وجدته في كتبهم مشروحاً، ولا أدعي أنه ليس في حكمة الله البالغة، وموهبته السابغة، أزيد من ذلك، بل أذكر ما انتهى إليه فهمي فأقول: إن الغيب المدعى الاطلاع عليه، وهو ما لا يعلمه عامة الناس قسمان: قسم متقرر في نفسه، وللعقول وصول إليه، وقد يدركه بعض العقول دون بعض، وذلك كصفات الله تعالى وأسمائه، وحكمته في أرضه وسمائه، وأحكام المعاد وغير ذلك، وكذا كل علم مستنبط في الأصول والفروع وغير ذلك، فهذا اطلاع صحيح، ولكن لا يسمى في الاصطلاح كشفاً، نعم هو الكشف الصحيح النافع، وسنشير إليه آخر الترجمة إن شاء الله.
وقسم مرجعه الموهبة، و " لكن " لا مجال فيه للعقول، ويكون إما بلا تقدم سبب يناسبه كحال مجذوب وهي الرؤيا المستغنية عن التعبير، وإما بمشاهدة مثاله، وهي الرؤيا التي تعبر، وإما بسماع خطاب أو آية أو قراءتها ونحو ذلك، ولا حاجة إلى بيان حقيقة الرؤيا لأن ذلك مستوفى في علم التعبير.
وأما الغيبة فأن يشاهد فيها شيء أيضاً أو أمثاله أو يسمع الخطاب أو نحو ذلك، وكون المشاهدة حينئذ بالعين الباصرة أو بعين القلب أمر محتمل، ولا حاجة إلى التعرض لتحقيقه فإنه لا يتعلّق به غرض.
وأما اليقظة فبأن يرى الشيء بعينه إن كان مما يرى أو أمثاله، أو يراه بقلبه إما بأن يتجلى له كرؤية البصر أو يخطر فيه أنه كذا، أو يحدث به، وقد يرى الشيء مكتوباً في اللوح المحفوظ أو في الصحف المستنسخة يقظة أو غيبة أو مناماً أو مكتوباً على صفحة جدار أو على جبين السائل أو غير ذلك، وقد يفهم ذلك من صوت يسمعه أو فعل أو حال يراه لغيره أو لنفسه أو نحو ذلك، فهذا النوع كله هو الذي يراد بالكشف والمكاشفة في عرف الناس، وقد يختص ذلك يختص ذلك بالقسم الثاني والثالث أو بالثالث فقط.
ولما كان أمراً معشوقاً للإنسان وذلك من وجهين: أحدهما من حيث كونه علماً، والعلم هو غذاء الروح، وكلما كان أغرب، كان أشهى وأعجب.