ولما انعقد له الأمر وكان قد تعب فيه هم بأن يَقِيلَ فذهب ليدخل الدار، فقال له ابنه عبد الملك بن عمر - رضي الله عنهما -: ما تريد أن تفعل يا أبت؟ فقال له: يا بني إني قد سهرت من هذا الهم، فأردت أن أصيب راحة، فقال له: وأين حقوق الناس؟ فقال: يا بني إلى الظهر، فقال: يا أبت ومن لك بأن تعيش إلى الظهر؟ فأخذه وقبل ما بين عينيه وقال: الحمد لله الذي خلق مني من يعينني على ديني، فترك القيلولة، وخرج إلى الناس وقال: من كانت له مظلمة فليأتنا، وجعل يرد على الناس ضياعهم وأموالهم وينصفهم مما وقع عليهم من الظلم قبله.
هكذا هكذا وإلاّ فلا لا ... طرق الجد غير طرق المزاح
ومن هذا سئل إمامنا مالك - رضي الله عنه - من يقاتل عن الإمام؟ قال: إن كان كعمر بن عبد العزيز فنعم، وإلاّ فدعه ينتقم الله من الظالم بالظالم حتى ينتقم من الجميع.
فإذا عرضت على نفسك هذا الشرط فتنبه إليها، فإن انشرحت له بأول عارض فعسى أن تصدق، وإن رأيت في أديمها انكماشاً ما فهي كذابة تريد أن تتذرع بتسويلتها الباطلة إلى اقتناص اللذات، والانهماك في الشهوات، ولا تغتر بانشراح يظهر منها ثانيَ حالٍ لأنه يكون متكلفاً احتيالاً.
الثاني أن تقدر أن لو ظهر غيرك في الوجود ممن يقوم بهذا الأمر مثل ما ترجو أو أفضل هب تكتفي بذلك وتحمد الله تعالى على ما كفاك مئونة ما تريد أم لا. فإن اكتفيت بذلك وعلمت أن المراد انتفاع المسلمين وصلاحهم، وقد حصل بلا شك منك فقد تصدق، وإن وجدت نفسك مع ذلك مضرة على طلب ذلك متنكدة من فواته فاعلم أنها كاذبة إنما تطلب حقها، فإن زعمت أنها إنما طلبت الفوز بدرجة ذلك عند الله تعالى وإنما تنكدت من فواتها فاعرض عليها أنه لو حصل ذلك أو أرفع منه وهي بين يدي الله تعالى في خلوتها مراقبة له لهجة بذكره سارحة في رياض المعارف ليلاً ونهاراً هل تطلب هذه الخطة؟ فإن قالت إذن لا حاجة لي بها إذ أصبت الغنيمة الباردة ووقعت على الدر النفيس فعسى أن تكون صادقة، وإن أصرت على الطلب فهي كاذبة، هذا على أن دسائس النفس أدق شيء وأعمصه فقد تسخو بالحظوظ الحسية كلها حتى تتوهم أنها صادقة وإنما تريد حظوظاً معنوية مثل الصيت والذكر في الدنيا على ما وقع للرهبان، نسأل الله السلامة من شرها.
ثم إن ألفيتها صادقة مع الامتحانات، وما أغرب وجود ذلك!، فانظر حينئذ في الإمكان، فإن القيام بذلك متوقف عادة على أمور كالعقل والقوة والعدد والعدة والمال والإخوان والأعوان، فإن تيسر ذلك فمن علامة الإذن التيسير، ولا يكاد يتفق ذلك، ولا سيما فيما نحن فيه من آخر الزمان الذي قل خيره وكثر شره، وإن اتفق فلا يكاد يتفق إلاّ بعد فتن ومفاسد لا يقوم بها ما يرجى من مصلحة، فلا يصل إلى الطاعة على زعمه إلاّ بعد اقتحام معاص عظام، وما أشبهه حينئذ بما شاع في ألسنة المتطببين من أنه لا يكون الرجل طبيباً حتى يعمل مقبرة، ولكن الناس مبتلون مقودون بسلاسل القدر، لينتظم أمر الدنيا على حسب ما شاء الحكيم العليم، نسأله سبحانه أن يصرفنا فيما فيه رضاه، وكذا ما نحن فيه، وإن لم تر إمكاناً أصلاً أو لم تره على مقتضى المصلحة الشرعية فخل عنها، واعلم أنك لست من أهلها.
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
ودع عمار العلى للمقدمين على ... ركوبها واقتنع منهن بالبلل
ولا تغتر بصلاح نيتك وتمنيك الخير وتظن أنك تعطى لا محالة ما تتمنى فهيهات!
ما كل ما يتمنى المرء يدركه ... تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
واعلم أنك متى رمت النهوض إلى هذا الأمر بلا عُدّته تكون كالمجبوب يروم أن يتزوج ليولد له ولد صالح يدعو له أو ليكثر الأمة المحمدية بنسله، فهذا أحمق مبين، وحسبه أن يحتسب على الله تعالى نيته الصالحة فعسى أن يعطى بها خيراً، وفي الحديث: " نِيَّةُ المُؤْمِنِ أبْلَغُ منْ عَمَلِهِ " وفي الحديث: " مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَة " وكذا أنت في هذا كله.