للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

حدثني الأديب الفاضل أبو عبد الله محمد بن المرابط الدلائي قال: كنت مع والدي رحمه الله، وأظنه قال في درب الحجاز نزولاً، فإذا بعجوز أعرابية مرت بنا وقد رفعت عقيرتها وهي تقول:

حج الحجيج وناقتي معكولة ... يا رب يا مولاي حل عكالها

بقاف معقودة على ما هو لغة العرب اليوم، قال: فقام أبي يهرول وراءها عجباً بما سمع من كلام العرب في غير زمانه.

والظاهر أنها أرادت بالناقة نفسها، وأنها لم تنشرح لهذا الأمر، أو أرادت تمثيل حالها في عدم التحرك بحال الناقة المعقولة أو حال من ناقة معقولة.

ومثل هذه اللغة ما حدثني الفاضل أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الجزائري قال: حج بعض الأشراف فلما وقف على الروضة المشرفة على ساكنها الصلاة والسلام قال:

إن كيل زرتم بما رجعتم به ... يا أكرم الرسل ما نكولُ؟

بالقاف المعقودة، فسمع من الروضة بتلك اللغة:

كولوا رجعنا بكلّ خير ... واجتمع الفرع والأصول

لله الأمر من قبل ومن بعد

[الكسكسون والتداوي بالشيء المعتاد]

وجدت في بعض التقاييد لبعضهم ما معناه: لو رأى أرسطو قدر البرنس في اللباس، والكسكسون في الطعام، والحلق بالموسى، لاعترف للبربر بحكمة التدبير الدنيوي وأن لهم قصب السبق في ذلك، انتهى.

وقد كتب الكسكسون بالنون على ما وجدته مكتوباً خلاف ما ينطق به الناس، وبالنون، حدثنا الرئيس الأجلّ أبو عبد الله محمد الحاج المتقدم الذكر قال: ذهب رجلان فاضلان من بلاد المغرب، وأظنه قال: أخوان، فدخلا بلاد الشام، فمرض أحدهما وطال به المرض حتى يئسوا منه، فرأى الآخر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: أطعموه الكسكسون بهذه العبارة، قال: فاستصنعوه له فأكله فبرئ، وهذا إما خصوصية لهذا الطعام، أو بذكره صلى الله عليه وسلم، فيثبت له الشرف، ويستدرك بذلك ما قلته من كونه لم يأكله صلى الله عليه وسلم في حياته، وإما من باب ما تقرر من أن دواء الجسم عادته.

قد دخلنا مدينة فاس - حرسها الله - عام تسع وسبعين وألف فأصابني إسهال مفرط، وطال " بي " وكان الطبيب بعثني بأمري، فلم يترك دواء يستحسنه إلاّ صنعه لي، فلما لم يفد ذلك أرسل في غيبة مني إلى عمالي يقول لهم: انظروا إن كان " ثم " من الطعام ما يعتاده في بلده فأطعموه، فذكروا الأقط واصطنعوا عليه طعاماً فأكلته فعافاني الله تعالى.

وقد أصابني مرة أخرى ذلك فدخلت على السلطان رشيد ابن الشريف، وكان يكرمني ويجلني، فرأى تغيراً في وجهي، فسألني فأخبرته فقال: وماذا صنعت من علاج؟ فقلت له: إن الطبيب يصنع لي شراب الريحان، فتضاحك ثم قال: سبحان الله! ما لنا ولشرب الريحان؟ وأين عهدناه؟ خذ سويق الشعير واخلطه بالماء فذلك دواؤه، ثم ضحك فقال: هذه مثل قصة العمراني الشريف، بات في ملوية عند بني فلان فجعل يقول: أعندكم شيء من شراب رمانتين؟ وهذا أعني التداوي بالشيء المعتاد، ولو في الأعراق أمر شهير واضح، وقد ذكره ابن الحاج رضي الله عنه في " المدخل " وذكر قصة الملك النصراني الذي مرض فأعيا الأطباء علاجه حتى جاء بعض أهل الخبرة فسأل أمه وقال: إن أردت أن يعافى ابنك فاصدقيني عنه، فقالت: نعم، كان أبوه عقيماً، فلما خفت ذهاب ملكهم مكنت أعرابياً كان عندنا من نفسي، فهو أبو الملك، فقال الرجل على الفور: علي بحوار فجيء به وذبح وشوي قدامه وهو يشم رائحته، فكان ذلك بإذن الله تعالى سبب برئه.

وهذا من العجب، فإن هذا الملك الظاهر أنه ما أكل قط لحم الجمل، وإنما العروق نزعته فكيف بمن اعتاد أكل الطعام وربا عليه جسمه.

<<  <   >  >>